نسيم ضاهر *
تكفل الدساتير المبادئ الأساسية الناظمة للعقد الاجتماعي، أو هكذا هي وظيفتها في الحفاظ على الحقوق والحريّات العائدة للفرد والجماعة. ولئِنْ تفرّدت بريطانيا، لأسباب تاريخية تعود إلى مسار تاريخي غرس هذا المفهوم في صلب الحياة العامّة والمكتسبات دونما حاجة إلى تدوين، فقد خطَّ الآباء المؤسّسون للولايات الأميركيّة شرعةً أرادوا منها قواعد مكتوبة تستوعب ميراث التاج البريطاني الحقوقي وتتقدّم نحو ما أهمله حيال الأقلّيات الدينيّة ومن ثمّ العرقيّة التي وجدت في العالم الجديد ملاذها وأرض ممارسة لمعتقداتها الموعودة.
استلهم بُناة الاتحاد الناشئ أفكارهم الاستقلالية من المعمّرين الأوائل، بعد مُضيّ أجيال على الذين وطأوا أرض الشقاء والأمل. بيْدَ أنّ الدروس المستقاة من حقبة الاستعمار، والوافدة من تحوّلات حملها عصر التنوير مع دعوات التحرّر السائرة قُدُماً في العالم القديم، دفعت النخبة الأميركية المتوثّبة إلى مزيد فلسفي يتجاوز تعاليم الإصلاح الديني إلى أفق أرحب اعتنى بعلاقة المجتمع والدولة، وحرص على إسباغ الطابع المدني عليها وإعطائها قدراً من المضمون «الكوني» كمثال تصالحي ونموذج مبتكَر لا تحدّه رواسب التاريخ ولا تقيِّده عوائق البُنى الاجتماعية والتراتبيّة التي تسكن المجال الأوروبي. وحيث سجّلت أميركا الفتيّة سبقاً في بلورة نظام متساوٍ وترجمته واقعاً سياديّاً، استمرّت على عيوب عضويّة شديدة الوصمة لاحقاً على صورتها، تمثّلت بإخراج الرقّ الأسود من المعادلة ولوحة أصحاب الحقوق، واستئصال أقوام من السكّان الهنود الأصليين أو ترحيلهم وإخضاعهم بالقوة لمشيئة الرجل الأبيض الزاحف نحو الغرب.
على مرّ السنين، عاد للقضاء الأميركي الحقّ في التوسّع في تفسير الدستور وتعديلاته الـ26 والإفتاء في مدى التزام السلطات العامّة الحدود التي كفلها النصّ. تلك مناعة انبثقت من حاضنة مرجع القياس وصيغة جازمة لناحية الحقوق والناهية إزاء التعدِّي على حقلها.
هكذا واكَبَ التوسّع في دائرة الحريات مستجدّات الحياة والوسائط الجديدة، وفاخرت الولايات المتحدة بنصاب السلطات والضوابط التقليديّة في قمّة الهرم السياسي التي تحكم وترشِّد العلاقة بين الإدارة (السلطة التنفيذيّة) والكونغرس، والمركز والولايات، في زمن السلم والحرب على السواء.
غير أنّ حقبة الرئيس الحالي، جورج بوش، التي شهدت فاتحتها اعتداءات 11 أيلول الإرهابية المفاجئة، تعدَّت المعمول به من أصول معروفة، واتكأت على الصنيعة الإرهابية لممارسة فجّة، اعتباطيّة مُغالية في تقويم الصلاحيّات والأداء، مُتفلِّتة من الكوابح النظاميّة الآيلة إلى رقابة الهيئات المُنتخَبة والمجتمع ككلّ لأعمال الإدارة وقراراتها. طاول هذا الجنوح الحريّات الفرديّة المكفولة دستوريّاً في مناحٍ قلّصها قانون الصلاح الوطني المستحدَث، وأثار الريبة من مفاعيله الخاصّة على نقيض المعهود في ظروف الصعاب والحروب السابقة.
استحضرت «الحرب على الإرهاب»، العدوّ المجهول، نزعة العمل في الخفاء، ما يعادل الأسلوب «التآمري»، وانعدام الشفافية في مجالات درجَ المؤتمَنون على الدستور احترامها، عملاً بقواعد ثابتة، ونزولاً عند الكيمياء العضوية للفُسيفساء الأميركيّة، الولاياتيّة فيها وتلك المُعنونَة «لوبيات» ومواقع قوى ضمن دائرة صنّاع القرار. وإذ استدعت محاربة الشرّ تدابير وقائية احترازية، اندفع غلاة الطاقم الرئاسي يُمعنون في استنباط الأدوات القانونية القاسية للتغطية على وسائل نهجهم المُتشدِّد وإلباس المواد الدستورية معاني تحريفيّة سمحت بالتعتيم على أفعال الأجهزة الأمنية وإبعاد حُكم القضاء وأصوله عن تماسها.
نبَّهَ القاضي في محاكم الاستئناف الفيدرالية الأميركيّة ديمون كيث باكراً عام 2002، بعيد أحداث الحادي عشر من أيلول، من موت الديموقراطيات وراء الأبواب المغلقة. بنى مطالعته على مطلع الدستور في تعديله الأول، الذي رأى فيه المُشترع حماية للشعب من كلّ سلطة سرية، حيث لم يولِ أي حاكم صلاحية التمييز بين الصحيح والخاطئ، وترك للناس حريّة القول على معنى الإطلاق. فإثر إسقاط «طالبان»، ومن ثمّ غزو العراق، اتسعت وتنوّعت الطعون والمخالفات جرّاء ممارسة السلطة، وأطاحت مبادئ من صُلب الدستور تضمن الحريات العامة وتسيِّج الانتفاع بها. على هذا النحو، يتبدَّى اليوم حجم الانتقاص من محمول الدستور في مواده (تعديلاته) الرابعة «حظر إصدار استنابة بحث أو تحرّ أو مراقبة بالتوسّع، من دون سبب محتمل وتفاصيل محدّدة». والسادسة «عدم جواز التوقيف من دون محاكمة سريعة والاستماع إلى شهود وتأمين دفاع قانوني» و«منع استخدام التأديب وأساليب العنف خلال التحقيق». ولقد أساء هواة السحر من مولّفي التبريرات القانونية المغالطة، كالقول بأنّ استخراج الاعترافات بالإكراه لا يوازي التعذيب المعرّف عنه قانوناً، إلى الدستور ومعاهدة جنيف والقوانين الوضعية الصادرة عن الكونغرس، من خلال اجتهاداتهم الأيديولوجية وهندسات قانونيّين محافظين تلاعبوا بفحوى النصوص.
يتعذّر الاحتجاج بالضوابط وكفالة القانون الأساسي حين تُصنَع السياسة في الظلمة، وراء الأسوار، ويقتصر تحديد المسار وتوجيهه على حفنة تتعمّد التمويه والتضليل في مداولاتها وخلاصاتها بذريعة أنّ الضرورات تبيح المحظورات. ومن النافل أنّ المحيط العربي استنفدَ هذه المقولة، وجلس في صحنها طويلاً مُثقَلاً بتركة الاستبداد، طليقاً من الرقابة المزدوجة المؤسّسية الصارمة بين مجالس تمثيليّة واستقلال قضاء، على نقيض الموروث الأميركي. امتياز الحال العربي مضاعفة للسلبيات وغياب للبدائل وآليات التصحيح التي تجد قوامها في حيوية المجتمع المدني ومخرجها في تداول السلطة.
فحيثُ عابرُ ظاهرةٍ وظرفيةٍ مقيتةٍ تُراكِم السخط ويتناولها النقد الجذري بكل أشكاله في غير مكان (على غرار الأكاديميّين وأهل الفن والإبداع والفقه، إضافة إلى المعارضة السياسية وبعض كبار خبراء المؤسّسة العسكرية)، يَسكنُ الشواذ ديارنا ويستوطن دوائر القرار على صعيد الكلّ والجزئيات: أنظمة ومجالس وتشكيلات سياسية تعجّ بالملهَمين والأفذاذ. فمن سقط استُخلِف بورثة من طينة مشابهة، يمارس في معجن مختلف في الشكل، مثيل في مضمونه الانطوائي ورسالته الخلاصية.
أوجدت الأبحاث الطبيّة مضادّات للأمراض والأوبئة، منها الوقائي ومنها العلاجي المحض، أسعفها المُعطَى الجيني بميراث المناعة النابعة من صميم الأصول. اجتمعت وسائط النجاعة في حقل الصحّة العامّة، وتكاملت بتوافر عناصرها، سلسلة افتقدت مجتمعات بعض حلفائها وما زالت تعاني ويلات مصابها. هكذا ناموس الصلاح السياسي مسند إلى حصانة الدستور حاضنة، مُعزّز بمقوّيات الحقوق ومضادات التفرّد والاعتلال ضمن جامع الأنصبة وفصل السلطات وتوازنها. ينسحب هذا المعيار على كلّ موقع سلطة ومصدر قرار، سواء على المستوى الدولتي أو على المشاركة في الحياة السياسية واستقامة دفّة الحكم من منظور الموالاة والمعارضة، لا فرق.
وعلى رغم شوائب النظام اللبناني ونواقصه ومعوِّقات سلامته وعدالته، فهو ما فتِىءَ ينعم بفضائل وأفضليات تضعه في مدار الديموقراطية والتنافس، وتمكّنه من المحجوب والممنوع في محيطه الإقليمي، وتصون لوناً من الحريات الفردية والعامّة.
أقرَّ الطائف إصلاحاً دستورياً محدوداً، وأنجب معادلات هشّة يحيط الغموض والشجار ببعض مفاصلها عن تبدّل في اللوحة وخروج من وصاية. لكنّ الطامة في ممارسة المكوِّنات إزاء المنطق الدستوري، واستقالتها من وظيفة العناية بالمجتمع وتزخيم مؤسّساته السياسية، إلى مصادرة فئوية وامتلاك للمقدّرات المذهبيّة والمناطقيّة على وجه فوقي جعل من الغرف الموصَدة أبوابها مقرّاً لإنتاج السياسة، ومنزلاً لورشات عمل عصيّة على المكاشفة والاختبار.
فاقم الصراع على السلطة، في ظروف إقليميّة بالغة التعقيد، مقوِّمات التواصل مع القواعد والحوار مع الآخر الشريك. وأوقف الحراك على تشاوف وتقاذف وإطلال تبشيري من على المنابر للحشد والتعبئة والوعظ المجّاني، فيما المطلوب استدلال بالدستور وتصويب للحياة العامة المختزَلة بمجالس تحت جنح الظلام تتوسَّل الأمانات سبيلاً إلى الدوران في حلقتها بعيداً من أعين المواطنين. ليست الديموقراطيّة في حاجة إلى متلقٍّ صامت أو مريد عصباني صاخب، وما كانت الفضيلة يوماً غلافاً للتقية وشبق السلطة والمقام. إنّ بلداً يتخلَّى عن معارضة الحكم وفق الوصية الدستورية وأحكامها، ويستبدلها ببدعة المعارضة في الحكم، لهوُ سائر في دروب وعرة، يفدي المؤسّسات بتوافق هجين، ويبشّر بموت بطيء للديموقراطية، يذوّب السياسة في المحابس، ويقيم على الهيكل حرّاساً متخاصمين في ما بينهم، منقطعين عن عامّة
الناس.
* كاتب لبناني