دياب أبو جهجه *
ليست هذه هي المرّة الأولى التي تحشد فيها قوّات أجنبية جيوشها على حدود العراق استعداداً لغزوه، ولا هي مفاجأة ألّا يكون ثمّة موقف رسمي عربي موحّد ممّا يجري على الحدود العراقية ـــــ التركية وأن تُترك الأمور للدوائر الدولية والإقليمية تحدّد أفق ما سيحدث وحدوده. إلّا أنّ السؤال الذي نريد محاولة الإجابة عنه هنا هو: ما هو الموقف الذي ينبغي للعرب أخذه من الأزمة التركية ـــــ الكردية ـــــ العراقية.
إن الإجابة عن هذا السؤال لا بدّ لها من أن تُبنى منهجياً على مقاربة علمية جيوسياسية للوضع العربي اليوم وللأمن القومي العربي. والأمن القومي مفهوم إشكالي بحدّ ذاته، إلّا أنّه في تعريفه الأقلّ خلافية وفي حدّه الأدنى، يعني المحافظة على طريقة حياة تتوافق مع المتطلّبات الأساسية للعيش الكريم ومع التطلّعات العامّة لغالبية الشعب والحفاظ على ما يُسمَّى في الفكر الاستراتيجي «القيم المكتسَبة» للأمّة، أي أمّة.
والقيم المكتسبة قد لا تكون موازية للتطلّعات، إلّا أنّها تمثّل ما تحقّق منها ولو جزئيّاً، ومن هنا نستطيع القول إنّه بالرغم من كون الدولة القطرية العربيّة لا تُشبع تطلّعات الشعب العربي الطامح إلى كيان سياسي أكثر تكاملاً وأكثر مناعة وأفضل أداء، فهي تمثّل قيمة مكتسبة لا يمكن التنازل عنها إلّا من أجل تخطّيها إلى ما هو أفضل منها، وبالتالي فإن تجزئة أي دولة عربية وتقسيمها هو فقدان لقيمة مكتسبة، ومناف للمصلحة القومية وللأمن القومي العربي برمّته. كذلك أي تراجع في مستوى المعيشة المنخفض أصلًا هو أيضاً فقدان لقيمة مكتسبة ولو كانت هذه القيمة غير كافية أساساً. وأي تراجع في مستوى الأمن الفردي داخل المجتمعات، وهو الأمن غير المستتبّ أصلاً، هو أيضاً انهيار لقيمة مكتسبة ومناف للأمن القومي عامّة.
يتكلّم دارسو العلوم الاستراتيجية والجيوسياسية على وجود ما يسمّونه حقولًا أمنية مترابطة عضوياً، وهي عبارة عن مناطق جغرافية قد توجد فيها عدّة دول. إلّا أنّ أمنها القومي مترابط بشكل كبير جداً يجبرها على صوغ منظومة أمنية مشتركة. وغالباً ما يكون السبب وراء هذا الترابط الأمني هو وجود كيانات مجتمعية عابرة للدول على أسس قومية أو إثنية أو دينية. ويرى الباحث الاستراتيجي الأميركي مايكل ماندلباوم أنّ «الروابط العرقية والثقافية القوية بين شعوب الدول العربية تخلق في ما بينها حقلاً أمنياً مشتركاً بالغ الترابط بعضه ببعض». إنّ هذا الترابط الأمني العربي هو ما اصطُلح على تسميته «الأمن القومي العربي» من خلال إدراك الدول العربية المختلفة والمتنازعة غالباً لهذا الواقع، وهو واقع وإن كانت تدركه هذه الدول وتحاول التعامل معه موضوعياً، فهي في الوقت ذاته عاجزة عن السيطرة عليه نظراً لتعدّد طبّاخي السياسات الأمنية العربية وتوجّهاتهم المختلفة.
لقد عجز العرب دوماً عن بناء سياسة أمن قومي مشتركة، وهو أمر طبيعي نظراً لعجزهم عن بناء إطار سياسي فعّال للعمل المشترك. إلا أنّ فشلهم في هذا لا يعني أن الواقع تغير، وأن أمنهم لم يعد مترابطاً. فالفشل في التعامل مع الواقع لا يعني أنّ الواقع والمشاكل التي يطرحها لم تعد موجودة. والناس الذين يرفضون الحديث عن أمن قومي عربي لأنهم أيديولوجيّاً يرفضون فكرة أي شيء قومي عربي أصلًا، يصطدمون غالباً بحقيقة الوجود الموضوعي لهذا الحقل الأمني العربي ويدفعون ثمن عنادهم الدوغمائي على أرض الواقع.
إنّ ما يجري اليوم في العراق وفلسطين ولبنان وفي أية أرض عربية، سيكون له تأثير جمّ وملموس وآني على باقي البلاد العربية. ومن هنا نعود إلى ما يجري في شمال العراق، وسنحاول أن نفهمه في إطاره الكلّي ومن خلال فهمنا للنسق الإقليمي خلفيةً جغرافيةً سياسية.
من خلال أحداث الأسابيع الأخيرة، نرصد تحرّكاً لا يمكن فهمه فقط على أساس الأهداف التركية المعلَنة في محاربة حزب العمّال الكردستاني، وإن كان هذا الهدف من ضمن مجموعة أهداف جزئية تابعة للسياق الأشمل. منذ غزو العراق وإقليم كردستان العراق يتّجه بخطى ثابتة نحو الانفصال وتأسيس دولة كردية مستقلّة. وإن كان سقف الأهداف المعلَنة رسمياً هو سقف الفيدرالية، فإنّ الواقع على الأرض في كردستان يؤسّس لمقوّمات دولة لها جيشها الخاص وشرطتها الخاصة، لا بل وعلَمها الخاص ولغتها الخاصة. ففي كردستان العراق لا يُرفع العلم العراقي إلّا في حالات نادرة وبروتوكولية بحتة، وتحارب اللغة العربية ويُرَحَّل العرب.
من منظور انفصالي كردي، تُعدّ تجربة كردستان العراق تجربة ناجحة جداً، فالإقليم يشهد استقراراً أمنياً وازدهاراً اقتصادياً ويجتذب الرساميل الأجنبية كما يجتذب الموساد الإسرائيلي الذي يقيم فيه معسكرات تدريب للبشمركة تحت ستار الشركات الأمنية الدولية.
إنّ إقليم كردستان الغني بالنفط يمتلك مقوّمات الاستقلال رغم كونه منطقة قاريّة لا منافذ لها على البحر، فهو لن يكون الدولة الأولى ولا الأخيرة التي تواجه هذه المشكلة. وفي سياق الدينامية التقسيميّة الأوسع التي تفتك بالكيان العراقي من خلال التآكل الطائفي بين العرب العراقيّين وتلاعب القوى الإقليمية بملف العراق، كلّها معطوفة على تخبُّط الاحتلال وحيرته بين سيناريوات عديدة للخروج من مأزقه من بينها سيناريو التقسيم، يجعل من السعي الكردي للانفصال عاملاً حاسماً في دفع الدينامية العراقية ككل في هذا الاتجاه.
ومن الطبيعي أنّ تقسيم العراق إذا حصل، سيكون مقدّمة لتقسيم سوريا والسعودية، بينما مشاريع تقسيم لبنان والسودان جارية على قدم وساق. ومن هنا فإن هذا الانفصال الكردي إذا ما تمّ بهذه الطريقة، أي مستفيداً من احتلال أجنبي ذي طابع كولونيالي ومتحالف مع الكيان العنصري الصهيوني ومدعوماً منه هو مناف كلياً للأمن القومي العربي، وسيخلق تداعيات هائلة لن يسلم منها أي بلد عربي.
إلّا أنّ انفصال كردستان العراق لا يهدّد الأمن القومي العربي فحسب، بل كذلك الأمن القومي الإيراني والتركي. فكلا البلدين يحتويان على مناطق كردية ويشهدان تمرّداً مسلّحاً كردياً منذ سنوات طويلة. إنّ قيام دولة كردية متاخمة للمناطق الكردية في إيران وتركيا سيؤدّي إلى زعزعة الاستقرار في تلك المناطق وإلى احتمال انبعاث حركات انفصالية جديدة فيها تستند إلى عمق استراتيجي مرتبط معها عضوياً هو الدولة الكردية. هذه الدولة لا بدّ لها من أن تسعى على المديَين المتوسّط والبعيد، إلى التمدّد نحو البحر الأبيض المتوسّط مستفيدة من الوجود الديموغرافي للأكراد في تركيا وسوريا تحديداً. لهذه الأسباب، فإنّ العوامل الجيوسياسية سوف تدفعها عاجلًا أو آجلاً، إلى الاصطدام مع تركيا، حتّى لو لم تعتدِ تلك الأخيرة عليها، وحتى إن لم تكن هذه هي النيات الكردية اليوم.
إنّ تركيا لا تستطيع بشكل من الأشكال أن تسمح بنشوء دولة كردية على حدودها. وهي لا تستطيع الاتّكال على الحكومة العراقية الضعيفة، ولا على إيران المهدّدة، ولا على الولايات المتحدة المتخبّطة لمنع قيام هذه الدولة. وهي بالطبع لا تستطيع الاتكال على أي دولة عربية أو أي رؤية استراتيجية لعمل عربي مشترك في مجال الأمن القومي نظراً لانعدام مقوّماته السياسية والعملية.
وفي الوقت نفسه تدرك تركيا بمكوِّنَيها العسكري الأتاتوركي والسياسي الإسلامي المعتدل، أنّ الوضع القائم حالياً سيؤدّي حتماً إلى قيام دولة كردية إذا ما تُرك يتفاعل ويتراكم. من هنا فإنّ الأزمة الحاليّة تعكس رغبة تركيا في إفشال تجربة إقليم كردستان ومشروعه الانفصالي برمّته، وليس محاربة 500 مقاتل من حزب صغير ذي قاعدة شعبية محدوة جدّاً تقارب على الاضمحلال.
نعم، مسعود البرزاني على حقّ عندما يقول بأنّ تركيا تريد إسقاط التجربة الكردية في العراق، وإذا لم تستطع تركيا أن تنفّذ المهمّة هذه المرة لسبب ما، فستتربّص لهذا الإقليم وستهاجمه مرّة أخرى.
إن إفشال التجربة الانفصالية الكردية في شمال العراق هو مصلحة قومية عربية صريحة ومسألة أمن قومي عربي ملحّة. إنّ عجز الدول العربية عن أن تدافع عن الأمن القومي العربي اليوم في هذا الملف قد يعوّضه تقاطع المصلحة العربيّة مع المصلحة التركية، وهو أمر لا يحصل غالباً بين العرب ودولة هي حليف استراتيجي للولايات المتّحدة وتقيم علاقات تعاون مع الكيان الصهيوني. من هنا نستطيع فهم هذا الشعور المهيمن في الشارع العربي الذي يترقّب هجوماً تركياً «لتخليصنا من هؤلاء العملاء» كما كتب أحد أصحاب المدوّنات العربية على الإنترنت.
رغم أنّ الحسّ الشعبي العربي في محلّه من ناحية الدفاع عن وحدة العراق وباقي أطراف الوطن العربي بأيّ ثمن، كان علينا هنا التنبّه من أنّ رفض انفصال كردستان اليوم في هذه الظروف وبهذه الطريقة، لما يمثله هذا الانفصال من كوارث على الشعب العربي، لا يعني أن الموقف القومي التقدّمي هو موقف معادٍ للقضية الكردية بأي شكل من الأشكال. إن القضية الكردية قضية محقّة، والشعب الكردي له الحق في تقرير مصيره مثل غيره من الشعوب، إلا أنّ ذلك لا يخوّل الأكراد أن يتحالفوا مع الصهاينة ومع الغزاة الأميركيّين، وأن يجيّروا مشروعهم القومي من أجل ضرب مشروع التحرّر القومي لشعب ممزّق ومحتلّ ومقموع هو الشعب العربي في العراق، وعلى مدى الوطن العربي. كان على أكراد العراق أن ينأوا بأنفسهم عن العمالة للمحتل وعن التحالف مع العنصريّين الصهاينة، وأن يعملوا مع غيرهم من العراقيّين على تحرير العراق من الاحتلال ودمقرطته ثم طرح مشروعهم القومي. عندئذ سيحظون بتأييد كل العرب الشرفاء التقدميّين. إن النهج الذي اتّبعه أكراد العراق منذ الغزو الأميركي حتّى اليوم، هو نهج مدمّر لا يمكن تبريره بما ارتكبه نظام صدام حسين بحقّهم من فظائع، لأنّ نظام صدام ارتكب الفظائع نفسها ضدّ العرب في العراق وضدّ كلّ من كان يعارضه، ولأنّنا نذكر جميعاً كيف استعان الأكراد في صراعاتهم الداخلية بجيش صدّام بعضهم ضدّ بعض. إذا ما كان الأكراد هم الذين تبنّوا مقاربة براغماتية خالية من أي منطلقات مبدئية لمشروعهم القومي وربطوه بالدوائر الكولونيالية والصهيونية، فلا يلومنّ أحد اليوم الشعب العربي إذا ما رأى أنّ الدفاع عن مصلحته القومية يفترض به التحالف مع تركيا في هذه المعركة.
* كاتب لبناني