أسعد أبو خليل *
تحاول عبثاً أن تفهم الموقف الملتبس لحزب لله من المسألة العراقية. تقرأ الخطب والبيانات والتصريحات، وتتابع المقابلات، وتزداد الحيرة. ماذا يريد حزب الله أن يقول في المسألة العراقيةـــــ هذا اذا أراد أن يقول أي شيء في الموضوع؟ وأين يقف هذا الحزب الذي أصبح من دون منازع أكبر حزب في العالم العربي ـــــ أكبر حتى من التيار الشيعي الذي يقوده باسم السبع من طائرة الحريري الخاصة ـــــ إزاء التطورات الجسيمة في هذا البلد المثقل بالجراح، وبأعباء عقيدة بوش المدمّرة (التي يريدها سعد الحريري والمتقلب الأكبر، وليد جنبلاط، أن تصل إلى شواطئ لبنان ـــــ هم لا يدريان أن بوش لن يسرّ خاطريهما لشغله ولضعفه). وحزب الله يتعامل مع الموضوع العراقي بكثير من الالتباس والإبهام والتكتم والتقية. فهل هناك من يستطيع أن يشرح بوضوح موقف الحزب من الحرب والاحتلال الأميركي للعراق؟ وهل يمكن فهم صنع السياسة في الحزب وطبيعة تحالفاته من خلال دراسة موقفه من المسألة العراقية؟ وهل يسهم موقف الحزب في دعم موقفه، أم في دعم ـــــ بطريقة غير مباشرة ـــــ جهاز دعاية الفريق الحريري الغارق في التأجيج الطائفي ـــــ الناجح، عليك أن تقرّ؟
يجب القول بادئ ذي بدء أنّ حسن نصر الله كان سبّاقاً في تحذيره من الفتنة الطائفية والمذهبية قبل أشهر من الاجتياح الأميركي للعراق. ويُذكر أنّه ألحق تحذيره بدعوة العراقيين إلى التوافق وإلى عقد اتفاق «طائف» عراقي ـــــ مع أن «طائف» لبنان لم يحل أيّاً من المشاكل السياسية والاجتماعية المستعصية في لبنان. وأثارت دعوته آنذاك حفيظة عدد من القوى العراقية المنفية، وخصوصاً ما كان يسمّى المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق (الذي تحول إلى ميليشيا بدر، متمتّعاً بدعم أميركي وإيراني في آن). لكن الحزب تعامل مع حلفاء الاحتلال من الشيعة بالكثير من الرحابة والتفهم والود غير المبرر من منظور عقيدة مقاومة الاحتلال، وهذا أسهم ويُسهم في التعبئة الطائفية والمذهبية التي يُتقنها ويتفنن فيها أقطاب فريق سلالة الحريري الحاكمة. ويمكن أن يُسجل للحزب أنه في مرحلة قيادة حسن نصر الله له ابتعد عن ذلك الخطاب الأهوج والأرعن (حتى لا نتحدث عن الممارسة) الذي حكم مسيرة الحزب في حقبة الجنون الطائفي في الثمانينيات (بقدرة قادر، تحول صبحي الطفيلي قائد الحزب في تلك المرحلة إلى معتدل وإلى مُحب للحياة هو أيضاً).
ولا يمكن هنا تغييب حقيقة ناصعة: إنّ التعبئة والتأجيج الطائفي والمذهبي هما جزء من خطّة آل الحريري في لبنان، المتحالف مع الحكم السعودي (ليسمح لنا وزير الإعلام، إذ إن بيانه عن أعمال الخير السعودية في لبنان خلا من أي إشارة إلى الدعم السعودي لميليشيات الكتائب والأحرار في أول الحرب اللبنانية، كما أن بيانه لم يتضمن أرقاماً عن أموال دعم حملة التأجيج الطائفي في لبنان، فاقتضى التنويه). والتأجيج المذهبي في لبنان بارز في خطب رجال الدين السنة والشيعة في فريق آل الحريري، باستثناء خطب محمد علي الجوزو الذي اعتنق العلمانية المحضة منذ أيام إرشاده لـ«خلية حمد» ـــــ كم أن الذاكرة قصيرة في لبنان، وكم تتقصد وسائل الإعلام الحريرية والسعودية تغييب الخلفيات والذاكرة في محاولة للترويج لتقلبات حادة في عكس المواقف.
لكن حزب الله لا يستطيع التعفّف كليّاً في موضوع الفتنة الطائفية أو المذهبية، حتى وإن كان صادقاً في محاولة تجنبها بالرغم من وضوح الخطة السعودية ـــــ الحريرية ـــــ الإسرائيلية في جره إلى وحول الحرب المذهبية. فقدرة حزب الله على تجنّب الفتنة محدودة، ليس فقط بسبب عقيدة الحزب التي تفتقر إلى عناصر الجمع الوطني أو القومي، وليس فقط بسبب تركيبة الحزب الطائفية (بالرغم من تقديرنا لكتاب وجهود المقاوم ديغول أبو طاس)، وليس فقط بسبب رداءة وقصور إعلام الحزب وضعفه في الرد على الإعلام الحريري والسعودي، لكن أيضاً بسبب تحالفات الحزب التي تقويه من ناحية وتضعفه من ناحية أخرى. فهو يأنف أن يقر بالواقع الذي لا يمكن إنكاره: إن المشروع الأميركي ـــــ الإسرائيلي الذي بانت معالمه بوضوح في حرب إسرائيل على لبنان (هذه الحرب التي تظهر في إعلام 14 آذار بأنّها حرب لبنانية على دولة إسرائيل المسالمة، وإلا فماذا يعني كلامهم عن العودة إلى اتفاقية الهدنة؟ وكأن إسرائيل لم تعتد على لبنان قبل انطلاقة حزب الله أو حتى قبل انطلاقة الثورة الفلسطينية المسلحة) يحظى بدعم وتمويل سعودي، وأن أصوات إثارة الفتنة المذهبية في لبنان متناغمة مع المشروع السعودي ـــــ الأميركي ـــــ الإسرائيلي ـــــ ألم أقل لكم إنني من غلاة أنصار نظرية المؤامرة هذه الأيام؟ ويحاول، لا بل يصر، حزب الله أن يحيّد حكم آل سعود، رغم أن بيان «المصدر السعودي المسؤول» في أول أيام الحرب لا يزال ماثلاً في الأذهان، وكان واضحاً في تبنيه للحرب الإسرائيلية على لبنان، التي لم يكن معدّاً لها أن تطول، وكان طولها محرجاً للحكم السعودي الذي اضطر إلى إرسال بطانيات لستر التحالف (ولاحظنا آنذاك أن إسرائيل لم تسمح إلا بمساعدات من مصر والسعودية والأردن، أي من تلك الدول التي أرادت أن تحجب حقيقة تحالفها مع العدوان الإسرائيلي عبر الإعلان الدعائي عن مساعدات عاجلة، مثل إعلان السنيورة عن مساعدات إلى الشعب الفلسطيني أثناء تدمير مخيم آهل بالسكانومن المؤكد أن حفاظ حزب الله على أكثر من ضفيرة شعر لمعاوية في علاقته مع السعودية كان نتيجة حسابات الحليف الإيراني، أو نرجو ذلك لأن عدم إدراك الحزب، حتى لا نقول أكثر، يكون بالفعل خطيراً جداً إذا كان تهذيبه نحو الحكم السعودي ينبع من حسابات لبنانية خاصة به. ونتذكر أن القيادة السعودية تقصّدت إهانة الحزب عندما أعلن وزير الخارجية السعودي أثناء زيارة لوفد من الحزب إلى السعودية أنه لم تكن هناك دعوة للحزب وأن الحزب هو الذي طلب الزيارة. وكعادته في هكذا مواقف، لم يردّ الحزب على الإهانة. هو يظن أن إهمال الإهانة من الفطن أو من الكبر، مع أن الإهانات المتكررة من الفريق السعودي ـــــ الحريري أسهمت في تأليب الرأي العام السني في لبنان وفي العالم العربي على الحزب. والحزب ينتهج سياسة النعامة في إعلامه من باب تجنب الفتنة، بينما يسهم عن جهل على الأرجح في تقوية المخطط السعودي.
وارتباط الحزب الوثيق بإيران يقلل على الأرجح من قدرته على الحركة الحرة في العالم العربي. وهذا ليس من باب تأييد قرار نابع من كيانية لبنانية، بل من باب ما هو أهم (أو ما هو مهم، لأن الكيانية اللبنانية باطلة بكل أشكالها)، أي من باب مصلحة القضية الفلسطينية ومصلحة العدل الاجتماعي. كان على الحزب أن يرد على، وأن ينتقد، التحالف العربي مع العدوان الإسرائيلي، وأن يتصدى للمشروع الحريري في لبنان بشعار وأهداف أعمق من الشعار السخيف عن «الثلث المعطل» أو «الضامن». لا ندري إذا كان حرص الحليف الإيراني على علاقاته مع السعودية هو الذي يلجم الحزب في هذا الخصوص.
وقد تكون خشية حزب الله من الفتنة مبررة وحكيمة، لكن سياسته نحو المسألة العراقية تخدم من حيث يدري أو لا يدري مخطّطي الفتنة المذهبية، وهي لا تُفهم إلا من خلال إثبات تهمة طائفية الحزب ووصمتها. لماذا يمتنع الحزب مثلاً عن انتقاد ـــــ وبشدة ـــــ ميليشيات العنف الطائفي الشيعي التي هجّرت الآلاف من السنّة في بغداد؟ كان الحزب محقّاً في تنديده بإرهاب القاعدة في العراق، لكن لماذا يمتنع الحزب عن التنديد الصارم بالأفعال الشنيعة التي ارتكبتها ميليشيا بدر (لاحظوا أن المحتل الأميركي ومجلس الأمن لا يبديان قلقاً من الميليشيات الطائفية في العراق التي يسلحها المحتل الأميركي نفسه) بحق الشعب الفلسطيني في العراق؟ وهل هناك من شك في أن الاجتياح والاحتلال الأميركي للعراق تم بالتعاون مع قوى طائفية شيعية متحالفة مع إيران، وأن إيران سهلت الاحتلال الأميركي لأفغانستان؟ لا يمكن، أو لا يجب، السكوت عن الدور المتواطئ مع الاحتلال الذي أداه ولا يزال يؤديه آية الله السيستاني (هذا الذي كان مهادناً مع حكم صدام حسين الذي فضله عن غيره من المرجعيات الشيعية، والذي يذكّر في مهادنته مع القويّ أو مع المحتل بعبد الستار أبو ريشا الذي أصر على تسمية بكره بصدام، قبل أن يتعاون مع القاعدة، وقبل أن يصبح حليفاً لبوش وينحر له أربعين خروفاً ـــــ قبل أن يُغتال).
والذي يقرأ كتاب بول بريمر عن تجربته بالإضافة إلى كتاب وزير الدفاع السابق، علي علاوي، يتبين مدى اعتماد الاحتلال على مواقف السيستاني الداعمة لمبدأ الحرب الأميركية والاحتلال، وإن اختلفا على التفاصيل (وإن كان السيستاني قد استطاع أن يفرض رؤيته على الحكومة الأميركية بالنسبة إلى الدستور (الطائفي التقسيمي) وبالنسبة إلى الانتخابات التي كانت الإدارة الأميركية تعارضها. وكيف يمكن حزب الله أن يعارض بالمبدأ الاحتلال من دون معارضة أدوات الاحتلال (وهذا مثل الذي عارض الاحتلال الإسرائيلي للبنان من دون أن يعارض جيش لحد أو ميليشيا القوات اللبنانية أو ميليشيا التنظيم، حتى لا ننسى دور منسّق التحالف مع إسرائيل آنذاك، جورج عدوان)؟ وكتاب بريمر كان صريحاً في توضيح صلة الاحتلال بالسيستاني وتعاونه معه (نفى مرجع في مكتب السيستاني ما جاء في كتاب بريمر، لكنّ النفي انحصر بالتفاصيل والتقنيات. يُراجع في هذا الصدد كتاب ممثل السيستاني في لبنان، حامد الخفاف الذي يتضمن مواقف السيستاني ونصوصه في المسألة العراقية). ونسأل عن رأي حزب الله في رجل دين يفتي في منع لعبة الشطرنج (يمكن مراجعة الفتوى المذكورة في موقع السيستاني على الإنترنت) ولا يفتي بمنع الاحتلال (وهو أفتى في فتوى شهيرة بجواز التعامل التجاري مع المحتل على أن يسأل المواطن العراقي الجندي الأميركي بتهذيب عن موعد خروج القوات الأميركية من العراق، لكن حتى هذه الفتوى نامت نومة أهل الكهف).
وقد لاحظ اللبيب (واللبيبة) أن حزب الله أصدر أخيراً بياناً استنكر فيه ذلك القرار الصادر عن مجلس الشيوخ الأميركي (والمثقل بهموم حصار السنيورة) والداعي إلى تقسيم العراق (نلاحظ أن اليمينيين في الصحافة العربية، بما فيهم شلة اليساريين السابقين، سارعوا إلى «شرح» عدم إلزامية القرار المذكور، وكأن المشكلة هي في القرار لا في مبدأ تدخل بلد في شؤون بلد آخر إلى درجة إصدار قرارات (وهي أكثر من نافذة بوجود 160000 جندي أميركي) تدعو إلى تقسيمه إلى دويلات). لكن لماذا لا يصدر عن حزب الله بيان إدانة للمجلس الأعلى وميليشيا بدر، وهما من دعاة تقسيم العراق الطائفي والإثني، إلا إذا استمر العرب في لوم الكرد فقط؟ والنزعات التقسيمية والمذهبية في العراق من نتاج تحالف غير معلن بين مصالح الاحتلال والميليشيات الكردية والميليشيات الشيعية وميليشيا القاعدة التي تعمل من أجل إذكاء الفتنة المذهبية، وإن بز تيار المستقبل القاعدة في هذا الخصوص.
قد يقول قائل في الحزب إنه ليس كل ما يقوم به الحزب يمكن أن يُعلن، وهذا صحيح ومؤكد في البيانات العسكرية الأميركية. لكن هذا لا يكفي لتوضيح موقف الحزب، وقد لاذ الحزب بالصمت عندما أعلنت قوات الاحتلال الأميركية اعتقالها لكادر في الحزب في العراق. طبعاً، من الضروري أن يدين المرء إرهاب القاعدة وإرهاب الاحتلال، لكن حزب الله يتذاكى بالنسبة إلى موقفه من مبدأ المقاومة في العراق. ويحتاج الحزب إلى توضيح موقفه الملتبس، لأن الإعلام السعودي نجح في حملات التأجيج المذهبي، وفي رد موقف الحزب إلى تحالف طائفي محض. وموقف حزب الله هنا ضعيف للغاية، حتى في حقبة حسن نصر الله في قيادة الحزب. نلاحظ أن الحزب يرتاح إلى التحالفات الطائفية، ويولّي عليها تحالفات ممكنة مع قوى اليسار المقاوم (اختار الحزب التحالف مع وليد جنبلاط على التحالف مع أنور ياسين في انتخابات 2005، كما اختار التحالف الصامت مع آل الحريري على التحالف مع إبراهيم الحلبي في الانتخابات الفرعية الأخيرة في بيروت).
ثم ألا يقتضي الفهم الصحيح لمجريات الأحداث في الشرق الأوسط الربط بين فؤاد السنيورة ونوري المالكي؟ إذا كان هناك مخطط أميركي ـــــ إسرائيلي ـــــ سعودي (وهو ظاهر للعيان باستثناء أبواق آل سعود في الإعلام العربي الذين (واللواتي) يساوون بين النباهة ونفي المؤامرات من أصولها) واحد، فمن الضرورة الإشارة ـــــ على الأقل ـــــ إلى المؤامرة المتعددة الأوجه، وفي أكثر من مكان وبأسماء مستعارة. والاحتلال الأميركي في العراق هو الأصل وهو أم المشاريع، أما الباقي فروافد وأجزاء (صغيرة جداً في بلد مثل لبنان، مع تقديرنا لأطباق المازة العالمية وهي، مثل الأرز، «عاجقين الكون»).
إن الحزب يواجه اليوم حملة أميركية ـــــ إسرائيلية تركّز على موضوع سلاحه، وذلك ليس من أجل تطبيق تعريفات ماكس فيبر عن الدولة (وكأن فيبر كان يتحدث عن فؤاد السنيورة بالذات) كما يصوّر معلّقو جريدة النهار، لكن من أجل تدعيم أمن إسرائيل مجاناً. وتشارك حركة 14 آذار في ذلك وبخبث شديد إلا إذا اعتقدنا أن الدعوات الأميركية الليكودية إلى وليد جنبلاط تنبع من إعجابهم بتجربة الحزب التقدمي الاشتراكي في إقامة الدولة المدنية (وهي غير الإدارة المدنية). لكن الحزب يواجه الحملة بالقليل من الحكمة وبالكثير من التمنيات والسذاجة.
إن هذا الحزب بارع وباهر في مقاتلة إسرائيل وفاشل في الدعاية السياسية وفي الابتعاد عن أوحال الطائفية. وكلما حاول الحزب أن يظهر كأنه يخرج من وحل الطائفية، يبدو للناظر كأنه غارق في رمال متحركة من دون أن يدري. لكن موقف الحزب من المسألة العراقية، بالإضافة إلى مستقبل تحالفاته اللبنانية، وحدهما سيفصلان في موضوع تعاطي الحزب مع السرطان الطائفي.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: www.angryarab.blogspot.com)