رامي خريس
لم تكن غزّة بحاجة إلى انتظار «اليوم العالمي للفقر» لتعلن للعالم أنّها ومن فيها فقراء، وهي أيضاً لم تكن تنتظر قراراً يؤكّد لها أنّها «كيانٌ معادٍ»، فهي تعرف أنّ قادة إسرائيل كانوا يتمنّون الاستيقاظ يوماً ليجدوها وقد غرقت في البحر في عهد سابق على أولمرت وليبرمان. العداء إزاء غزّة متأصّل في العقلية الصهيونية، وهو لا يحتاج إلى قرار سياسي ليصبح أمراً نافذاً، أمّا الفقر فهو الآخر قديم، منذ اللحظة التي قرّرت فيها إسرائيل أن تُفقد الاقتصاد الفلسطيني اتساقه كوحدة متكاملة عبر إجراءات إعاقة التنمية التي حوّلت اقتصاد غزّة تدريجاً إلى خادم للطلب في السوق الإسرائيلية.
الوجه الآخر للفقر الذي تعيشه غزّة ـــــ وهو أخطر ـــــ هو «الفقر المعرفي» أو الثقافي. فالصراع الدائر بين حركتي «فتح» و«حماس» صادر ذلك الهامش الذي يُمكن أن تُسمَع من خلاله حتّى في أكثر الظروف صعوبةً الأصوات النقدية، الهامش الذي لا يكتفي بالتعليق على «اليومي» السياسي، بل يعيد تفكيك المسلّمات والبديهيّات المُتشكّلة في السياق الوطني على قاعدة طرح أسئلة المستقبل. لقد ألغى الصراع هامش السؤال والنقد، وانكبّ الإنتاج الصحافي والإعلامي والثقافي على زيادة جرعات المناكفة والتحريض المتبادلين في بنية الخطاب الفلسطيني الداخلي...
إنّ «حماس» التي تدير غزّة الآن بحاجة إلى توضيح موقفها الصريح إزاء فكرة الحوار مع «فتح»، فهي لم تنفكّ منذ سيطرتها بالقوّة على غزّة تطالب الحركة والرئيس محمود عبّاس بالحوار في الوقت نفسه الذي تتّهم فيه السيد عبّاس بالهرولة نحو «تصفية» القضيّة الفلسطينية في مؤتمر الخريف للسلام. وهي على الجانب الآخر لم تسمح بحدوث اجتهادات داخل «مشروع المقاومة» التي تقول إنّها تقوده، وهو ما دفعها إلى استعداء أطراف فلسطينية، بدلاً من استقطابها لجهة «المشروع» (الجبهة الشعبية والجهاد الإسلامي مثالاً)، وكل ذلك يفتح على سؤالين، الأوّل مرتبط بطبيعة مشروع «حماس» وماهيّته على المدى البعيد، أي لجهة كونه مشروع سلطة أو مشروع مقاومة، والسؤال الثاني هو الذي يقول لـ«حماس»: هل تريدون إعادة «فتح» إلى حظيرة غزّة لتتقاسموا معها الأجهزة الأمنية في مقابل منح «فتح» تفويضاً للسير في طريق المفاوضات كما جرى في صيغ سابقة، أم تقفون على النقيض من مشروع الرئيس عبّاس التفاوضي، وستعملون من أجل التعبير عن هذا الرفض في ميدان الممارسة العملية؟
في فتح، وتحديداً في تلك القطاعات التي ما زالت تتمسّك بالمقاومة خياراً وطنياً في مقابل التيّار الذي رضي بالمفاوضات طريقاً آخر، ينبغي طرح التساؤل عن الجدوى من وراء الحالة التي تشكّل فيها «فتح» الحاضنة الشعبية للاتجاه السياسي المدعوم أميركياً الذي يمثّله بجلاء الدكتور سلام فيّاض رئيس حكومة تسيير الأعمال الفلسطينية وطاقمه. فأعضاء هذه الحكومة في غالبيتهم شخصيّات من دون ثقل شعبي، ولا يستندون إلى قواعد اجتماعية كبيرة (حصلت القائمة التي قادها فيّاض للانتخابات البرلمانية على مقعدين فقط)، إلا أنّهم يتمتّعون الآن بثقل سياسي بفعل المناخ الذي توفره لهم «فتح»، وقد يكون من شأن ذلك في المستقبل القريب أن يعيد صياغة «فتح» التاريخية لجهة تحويلها إلى حزب سياسي ليبرالي يقود عملية الانفتاح بالمعنيَين السياسي والاقتصادي، وعلى رأسه تلك الطبقة التي أصبحت مرتبطة عضوياً بالمال الغربي وبالتالي باشتراطاته السياسية.