علي شهاب*
لم تكن قد مضت أيام على انتهاء العدوان الإسرائيلي صيف 2006، حين أطلّ رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط مستعيناً بمفردات خاصّة من قاموسه في «أدبيات» السياسة، وأولى قواعدها «يحقّ لجنبلاط ما لا يحقّ لغيره».
وفي 19 تشرين الأوّل الماضي، وقف الرجل خطيباً أمام المؤتمر السنوي لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، أحد أبرز أوجه مؤسّسات المحافظين الجدد الداعمة لإسرائيل في الولايات المتحدة، لاستعراض «الكفاح من أجل الحرية والديموقراطية في لبنان».
وبعيداً من التقارير الصحافية الواردة والمتعلقة بلقاءاته مع المشاركين الإسرائيليين على هامش المؤتمر، تقتضي المهنية الصحافية أن ننقل خبريّاً ما قال جنبلاط في نهاية مداخلته أثناء الحوار الذي دار بينه وبين المدير التنفيذي لمعهد واشنطن روبرت ساتلوف والباحث دايفيد ماكوفسكي، (وهو بالمناسبة أوّل صحافي يكتب لصحيفة إسرائيليّة من مدينة جدّة السعودية في عام 1995 بعد ضغوط من الخارجية الأميركية آنذاك)، ودينيس روس الغني عن التعريف، ومشاركين «مجهولين» ومراسل مجلّة «جيروزاليم ريبورت» الإسرائيلية جاب فين فيسيل.
يحدّد جنبلاط، في نهاية المداخلة، أن:
ـــــ لبنان يقف أمام خيارين: «قيام قوى 14 آذار بانتخاب رئيس يدعم حرية لبنان واستقراره وسيادته والقرارات الدولية» أو أن «نخضع لإيران وسوريا التي تركت خلفها لواءً في الحرس الثوري يحتلّ نصف لبنان ويقدّم الخدمات للسوريّين لاغتيالنا».
ـــــ «الحوار مع الأطراف اللبنانية الأخرى مستحيل، وسوف تكون الأمور أفضل إذا أُطيح النظام السوري».
ـــــ «الجيش اللبناني ما زال يضمّ بعض العناصر التي تنتمي إلى النظام القديم».
ـــــ «ما دامت سوريا قادرة على إرسال أسلحة إلى حزب الله، فلن يحصل أي تغيير في الوضع بوجود هذا النظام في دمشق. نحن بحاجة إلى قوّة قادرة على تغطية كلّ الأراضي اللبنانية، كما هي الحال في كوسوفو، لمراقبة الحدود السورية، وبعدئذ نتكلّم».
الكلام لوليد جنبلاط في مقابلة صحافية، خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان، أجراها الصحافي مايكل يونغ.
تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الأفكار كانت محور توصيات قدّمها العميد في الجيش الإسرائيلي يفتاح شابيرا، بعد أيّام قليلة على صدور القرار الدولي رقم 1701، في دراسة نشرها مركز جافي (معهد الأمن القومي الإسرائيلي حالياً) عن سبل نزع سلاح حزب الله.
ذات مرّة، اعتبر جنبلاط أن من أهداف القوّات الدولية تنفيذ اتفاق الطائف!
المتابع لتصريحات الرجل، ما بعد الحرب، يلحظ تصويباً في اتجاه كل نقطة قد تُحسَب لمصلحة حزب الله.
منذ البداية، قرّر الذهاب بعيداً، من خلال محاولة نزع الطابع الإلهي عن النصر: «ليس نصراً إلهياً، هو نصر من نوع جديد بتقنيات روسية وإيرانية».
يُجمع أنصار نظرية «المغامرة» على أنّ كفّة الميزان التي تعدّل صمود ثلّة من المقاتلين أمام جيش بحجم جيش إسرائيل، ترجّحها عوامل خارجة عن نطاق المنطق النظري. كيف نفسّر إذاً أن يدمّر صاروخ مضادّ للدروع، مداه الأقصى 5 كيلومترات، دبابة ميركافا على بعد 6 كيلومترات بشكل كامل؟ أو كيف يقتل صاروخ كاتيوشا، بنسبة هامش خطأ كبير في التصويب، 12 جندياً إسرائيلياً في كفرجلعاد؟
يمكن السؤال أن يكون أعمّ. كيف يمكن مئات المدافع ومنصّات الصواريخ أن تطلق 180000 قذيفة وأربعة آلاف صاروخ في ميدان مكشوف جوّاًَ وبحراً وبرّاً أمام آلة الحرب الإسرائيلية؟
لن يخوض جنبلاط في هذه الأسئلة، فقد حسم الجدال بعزله «نتيجة» عن «مسبّبها».
من منطلق ديني بحت، لا يجرؤ أحد من المسلمين على القول إن فعلاً يصدر عنه من دون مشيئة الله تعالى، فكيف إذا كان الفعل فريضة كـ«الجهاد» يحثّ عليها الشرع والعقل والنص؟
حتى أيمن الظواهري، الذي يعيش في «كهف عاجي» بحسب جنبلاط، حيّا «المجاهدين في فلسطين ولبنان» بعد الحرب الأخيرة، وصارت عبارة «المستضعفين في الأرض» لازمة في حديث القيادي الثاني
في «القاعدة».
بالمناسبة، الظواهري نفسه، المناقض تماماً لعقيدة حزب الله وأفكاره، لا يقدر أن يتحدّث عن نصر «غير إلهي» لأي حركة عسكرية مسلمة، ذلك أنّ مفهوم النصر في الإسلام مرتبط بإله الدين.
يسير جنبلاط إذاً على حدّ السيف، لكنّه يستطيع الردّ بربع «استدارة» على التهمة بخروجه عن مبادئ الإسلام، فهو أصلاً لم يكن يوماً ناطقاً باسم الإسلام، ولكن ليس وليد جنبلاط من يقدّم طلقة الرحمة لعدوه على طبق من فضّة.
في العمق، يتخطّى كلامه على النصر حدود السجال الداخلي إلى أبعاد إقليمية تحمل بذور الفتنة المذهبية: وضع وليد جنبلاط نُصب عينيه العلاقة الشيعية ـــــ السنية.
بعد أيّام قليلة من بدء العدوان، قال في مقابلة مع صحيفة ناطقة بالإنكليزية إنّ «السيد حسن نصر الله يظنّ نفسه نصف إله، وأحمدي نجاد ينتظر المهدي» الإمام الثاني عشر لدى الشيعة.
تدرّج جنبلاط في حملته الإعلامية والسياسية ضدّ حزب الله منذ أن استشعرت «هوائياته» تغيّراً في الوضع الإقليمي لغير مصلحة حلفاء الأمس.
في الفترة التي سبقت الحرب، بدا واضحاً أنّ جنبلاط يتبع برنامجاً تصاعدياً في إطلاق النعوت والعبارات بقصد زعزعة الهالة المحيطة بالمقاومة ورمزيّتها، فكان كلامه على «سلاح الغدر»، ومن ثمّ هجمته على «القدسية» وصولاً إلى كلّ ما يمتّ إلى حزب الله بصلة حتى ولو استوجب ذلك استحضار التاريخ السحيق: «الإمبراطورية الفارسية» مثلاً!
في موازاة ذلك، يدرك جنبلاط أنّ حقوق الأقليات تتراجع إلى حدود النسيان لدى اتفاق الأكثرية، لذا لا يمكن أن يجد لنفسه موقعاً في لبنان، إذا ما اتفق السنّة والشيعة في العالم الإسلامي.
في هذا الإطار، تأتي دعوته إلى حوار بين السعودية ومصر والأردن من جهة، والجمهورية الاسلامية الإيرانية من جهة أخرى. ليس من قبيل المصادفة اختياره الدول العربية الثلاث التي «تآمرت» على حزب الله «الشيعي»، خلال الحرب الأخيرة.
يعلم جنبلاط، على طريقته، أنّ أي حوار بين هذه الدول وإيران، في هذه المرحلة، من شأنه استحضار كلّ مقوّمات الفتنة المذهبية في الشارع العربي المتضامن مع حركة شيعية.
كذلك التصويب على «شيعية» المقاومة الإسلامية، حليفة النظام العلوي السوري و«أداة» حكم آيات الله، يُراد منه مخاطبة الغريزة المذهبية لدى الشعوب العربية السنية.
يُرسل الزعيم الدرزي، «عن سابق تصوّر وتصميم»، تصريحاته.
هذا هو الدور الذي يوفر له مكاناً في الساحة الإقليمية، وإن كان هو نفسه يعي خطورة هذه اللعبة، واحتمالات انقلابها عليه عند أيّ كبوة أميركية، عملاً بفلسفة الألماني فردريك نيتشه القائلة إنّ «من ينظر إلى الهاوية طويلاً، عليه أن يعلم أن الهاوية تنظر إليه أيضاً».
… وولفوفيتز Sorry
قبل سنتين تقريباً، تمنّى رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي الموت لنائب وزير الحرب الأميركي آنذاك بول وولفوفيتز، واصفاً إياه بـ«الجرثومة».
بعد أشهر قليلة، كانت «هوائيات» النائب اللبناني، المثير للجدل، قد التقطت تغيّراً في اتجاه الرياح الإقليمية لغير مصلحة حلفاء الأمس، فقرّر الاعتذار من «الجرثومة».
استعاد جنبلاط تأشيرة الدخول إلى الولايات المتّحدة. بات أقرب إلى تحقيق حلمه بأن «يكنّس شوارع نيويورك».
ذات مرّة، وصف الزعيم الدرزي نصف الشعب اللبناني بأنّه «من دون تفكير»... ثمّ رفض الاعتذار.
للوهلة الأولى، بدا أنّ الرجل يُسجّل نقاطاً في مرمى المقاومة وجمهورها، لكن، من باب التذكير فقط، ليس هو من يقدّم لخصومه هدايا على طبق من ذهب.
ماذا يريد جنبلاط إذاً من وراء النفخ في رماد العداء بينه وبين مليون ونصف مليون لبناني؟ لماذا خصّ جمهور المقاومة اللبنانية فقط بالشتيمة؟ ماذا عن جمهور المقاومة الفلسطينية مثلاً؟
أسئلة عديدة، يعرف جنبلاط وحده الإجابة عنها.
الأمر الأكيد الذي يعلمه العارفون بالحالة الجنبلاطية، أنّه لن يعتذر لجمهور المقاومة، وسيظلّ قاموسه جاهزاً لاستخراج المزيد من النعوت والمصطلحات.
يرى جنبلاط أنّ «من السهل استخدام الخطاب الشعبوي»، صحيح. ولكن الصحيح، أيضاً، أنه هو نفسه لا يستطيع أن يكون في موقع القائد الشعبوي لأسباب مذهبية تاريخية سياسية مرتبطة بشخصه، وأدواره البهلوانية.
إنّها العقدة الجنبلاطية إذاً، وعلى السيد حسن نصر الله وأحمدي نجاد وبشّار الأسد أن يتحمّلوا أوزارها. هم مضطرّون إلى ذلك.
أيضاً، على العالم أن يحذر إذا ما قرّر الزعيم الدرزي يوماً توسيع نشاطاته الإقليمية إلى الساحة الدولية.
من يعلم، فقد يجد الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز نفسه «محاصراً» بوليد جنبلاط، الصديق اللدود لـ«الجرثومة» بول وولفوفيتز، رئيس البنك الدولي، وأحد رموز الإمبريالية.
تُرى هل سيتفهّم تشافيز «الحالة الجنبلاطية»؟
* صحافي لبناني