محمد مصطفى علوش *
في تسجيل صوتي هو الثالث من نوعه في فترة وجيزة على خلاف العادة، يخرج زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن بخطاب لم يؤلَف من قبل، وقد يكون الأكثر أهمية من بين جميع خطاباته السابقة إذا ما استثنينا خطابه الذي أشار فيه إلى وقوف تنظيمه وراء تفجيرات 11 أيلول 2001. وإذا كان الشريط السابق قد ظهر فيه بن لادن بمظهر جديد، صابغاً لحيته، خالعاً لبذّتة العسكرية، مستغنياً عن بندقيّة الكلاشنيكوف، فإنّ خطابه الأخير، وإن لم تواكبه الصورة، جاء جديداً في مضمونه وفي طرحه، فكان خطاباً أقلّ تهديداً وأكثر واقعية، طارحاً تساؤلات محيّرة بشأن مستقبل التنظيم.
لا شكّ أنّ كثرة النداءات والرسائل التي أكثر منها بن لادن في الآونة الاخيرة، تعكس حجم المأزق الذي تعيشه «القاعدة» في العراق، حيث إنّ مضمون الخطاب ونوعية النصائح التي وجّهها للجماعات المقاومة في العراق وفي طليعتها «تنظيم القاعدة في بلد الرافدين»، تعكس هذا التصوّر. وإذا ما حلّلنا الشريط الأخير، نجد أنّ بن لادن ركّز فيه على نقاط محدّدة تتلخّص فيما يأتي:
ـــــ دعوة «أمراء الجماعات المجاهدة» في العراق إلى وحدة الصف والاجتماع تحت راية واحدة ناعتاً إياهم بـ «إخواني المجاهدين في العراق»، حتى تنعم الأمّة بـ «عام الجماعة» الذي وحّد ضربات المسلمين الأوائل إلى صدور أعدائهم دون سواهم، مستنجداً بالعلماء من «أهل العلم والفضل الصادقين» أن «يبذلوا جهودهم لتوحيد صفوف المجاهدين وألّا يملّوا من السير في الطريق الموصل
إلى ذلك».
ـــــ تحذير عناصر «القاعدة» في العراق من «التعصّب للرجال والجماعات والأوطان»، لأنّ «مصلحة الجماعة مقدّمة على مصلحة الفرد ومصلحة الدولة المسلمة مقدّمة على مصلحة الجماعة ومصلحة الأمّة مقدّمة على مصلحة
الدولة».
ـــــ دعوة أتباعه إلى الحرص على الجماعة وتعظيم أوامرها وأوامر قادتها.
ـــــ الاعتراف بالأخطاء التي وقعت فيها «القاعدة» في العراق مستأنساً بمقولة «الخطأ من طبيعة البشر» و«قد وقع الخطأ وارتُكبت كبائر في خير القرون»، محذراً من اخطأت بحقهم «القاعدة» من أن يستغلّهم «من في قلوبهم مرض ممّن يتتبّعون عورات وسقطات المجاهدين ويضخّمونها ولربما نسبوها كنتيجة لعبادة الجهاد تحت مسمّى العنف والإرهاب» للنيل من المجاهدين على اختلاف
تنظيماتهم.
ـــــ استرضاء شيوخ العشائر العراقية والاعتراف بمكانتها في البيئة العراقية، بعد أن هضم حقوقها حديثو السن من تنظيم «القاعدة» من خلال دعوة «العلماء وأمراء المجاهدين وشيوخ العشائر إلى أن يبذلوا جهدهم بين كلّ طائفتين تختلفان ويقضوا بينهما بشرع الله».
تكمن أهمية هذا الشريط في أنّه جاء عقب سلسلة من الأخطاء وقع فيها التنظيم، وقد واكبها تغيير جذري في بنية التنظيم الذي شهد حالة من الانفلاش والتوسّع الأفقي غير المتماسك والسهل رصده، وهو ما عزّز من كثرة الأخطاء التي كادت أن تجعل منه إحدى عجلات محرّك «منظومة الفوضى الخلاّقة» التي يسعى أعداء «القاعدة» لفرضها في الشرق الأوسط. ولعلّ أوضح مثال على ذلك، أنه بدل أن تكون «القاعدة» رائدة في تنظيم الجماعات المقاومة العراقية وتوحيدها تحت برنامج واضح يتناسب والخصوصية العراقية، إذ بها تصبح في مواجهة مع كثير من فصائل المقاومة، مثخنة في تقتيل عناصرها بعيداً عن العدو الأساسي، ومخرّبة للبيئة الديموغرافية العراقية بحيث ساعدت على تعزيز الفرز الطائفي الهادف لتقسيم العراق إلى كانتونات طائفية ومذهبية.
«الشريط القاعدي» الذي جاء بعد عام من إعلان «دولة العراق الإسلامية» التي أسّسها تنظيم «القاعدة» في محافظة الأنبار، لم يأت على ذكر تلك الدولة، ولا سيّما أنّها تتعرّض لاهتزازات مستمرّة بعدما انقلب عليها شيوخ العشائر في الأنبار. كذلك لم يدعُ بن لادن إلى لدعم هذه الدولة، بل كرّس الخطاب للحديث عن الأخطاء والدعوة إلى وحدة الصف ووجوب العمل الجماعي في إطار الجماعة الواحدة. فهو على ما يبدو، جاء استدراكاً لما أوجدت فيه «القاعدة» نفسها، حيث بقيت خارج «المجلس السياسي للمقاومة العراقية» الذي تشكّل منذ شهر تقريباً والذي يضمّ ستّ جماعات مسلّحة (الجيش الاسلامي، جيش المجاهدين، جماعة انصار السنة، جيش الفاتحين، الجبهة الاسلامية للمقاومة العراقية (جامع)، وحركة المقاومة الاسلامية حماس في العراق) بهدف العمل على «تحرير العراق» من الوجود الأميركي، فيما التحقت مجموعات مسلّحة أبرزها «جيش رجال الطريقة النقشبندية» بركب نائب الرئيس العراقي السابق عزّة ابراهيم الدوري.
ماذا يعني التحاق «القاعدة» بركب المقاومة العراقية؟
إنّ دعوة أعلى مسؤول في تنظيم «القاعدة» ـــــ رمزياً على الأقل ـــــ إلى الالتحاق بركب المقاومة العراقية كما هو واضح في التسجيل، يعني أنّ «القاعدة»، إمّا ان تكون قامت بسلسلة من المراجعات لمسلّماتها الأيديولوجية بعد تصاعد النقد ضدّها من علماء الصحوة في السعودية على شاكلة الشيخ سلمان بن فهد العودة، أحد أبرز المعارضين للوجود الاميركي في المنطقة والذي كان يمثّل رأس الحربة في انتقاد النظام السياسي في المملكة، حيث وجّه رسالة لأسامة بن لادن يدعوه فيها للعودة لخطّ الإعتدال واللحاق بركب جماعة العلماء من عموم الأمّة. وذلك على غرار من سبقه في هذه المضمار تماشياً مع التحوّل الحاصل وبشكل واضح في فكر القيادات الأساسية للجماعة الإسلامية في مصر وكذلك «تنظيم الجهاد» المصري التي كان ينتمي إليه أيمن الظواهري قبل أن يتحوّل إلى «القاعدة»، و«الجماعة السلفية للدعوة والقتال» في الجزائر قبل أن يتحّول فصيل منها للالتحاق بالتنظيم نفسه.
إمّا أنّ بن لادن أدرك طبيعة الانحراف الذي وصل اليه التنظيم عموماً وفرعه في العراق خصوصاً، بعدما خدمت أخطاؤه المتربّصين بالأمّة الإسلامية وبرّرت لهم الوصول للسلطة في بلدانهم كما هي حال المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، وأعطتهم دفعة قوية لإقناع شعوبهم بضرورة احتلال العراق وأفغانستان وغيرها من البلدان تحت شعار «مكافحة الإرهاب»، فضلاً عن توفير مبرّرات الاتهام لدى الحاقدين على «الإسلام السياسي» من أحزاب ومنظّمات لوصفه بالتخلّف والظلامية والعنف، والنيل من شرف المقاومة والطعن في قدسية حقّها في استرجاع أرضها والحفاظ على كرامة وهويّة شعوبها، الأمر الذي دفعه للقيام بسلسلة من المراجعات أدّت به إلى نصح تنظيمه باللحاق بركب الجماعات المقاومة العراقية، وهذا يعني تحوّلاً جذرياً في التنظيم لأنّ اللحاق بركب المقاومة العراقية يعني تبنّي أيديولوجيتها التي ترى ضرورة حصر العمل المقاوم في مواجهة المحتل في العراق تحديداً دون توجيه ضربات لأي طرف آخر، دون فتح مواجهة مع الأنظمة
العربية.
وإمّا أنّ دعوة بن لادن أنصاره للاندماج في الجماعات المقاومة هو من باب التكتيك السياسي والعسكري وليس له أي بعد ايديولوجي، بمعنى أنّ «القاعدة» وبعدما فشلت في الحفاظ على الدولة التي أسستها في العراق، لم تجد مناصاً من التعاون مع غيرها من الجماعات المقاومة العراقية التي تخالفها في الكثير من المنطلقات، فقبلت الرضوخ لتحصر عمل فرعها في بلاد الرافدين بأجندة الجماعات المقاومة الأخرى فيما تبقى أهداف التنظيم الدولي على ما هي عليه من اعتماد المواجهة المفتوحة مع الأنظمة من جهة، والتربّص بمصالح الدول الغربية من جهة أخرى.
في جميع الأحوال، من المتوقَّع أن تزداد المراجعات لدى معظم الحركات الإسلامية الجهادية لمصلحة الفكر الوسطي القائم على الحوار والواقعية وفقه المرحلة استكمالاً لمسيرة الصحوة الإسلامية التي بدأت مع الإخوان في مصر، لكن من غير المرجح أن ينعكس ذلك على «الفكر القاعدي» لأنّه تحوّل إلى جزء من منظومة الأحداث الجارية في العراق وأفغانستان وأصبح شعاراً يتبنّاه الشباب المتحمّس، كذلك من غير المرجّح أن يكون اسامة بن لادن ما زال قادراً على السيطرة على الحركات الجهاديّة المسلّحة أو قادراً على ضبطها وتوجيهها تماماً، لأن المنتمين لهذه التنظيمات لم يتعلّموا إلّا حمل السلاح ولم يعرفوا من الإسلام إلا فقه القتال، فضلاً عن أنّهم يشكّكون في علم وإخلاص الكثير من العلماء الذين لا ينتمون للتيارات الجهادية، ما يحول دون قراءة كتبهم أو الجلوس اليهم، الأمر الذي يضعف من احتمالات قيام مراجعات كبيرة في عمل «القاعدة» أو الجماعات الجهاديّة القريبة منه.
* باحث متخصّص في شؤون الجماعات الإسلاميّة