ورد كاسوحة *
ممّا لا شكّ فيه، أنّ المثال الإيراني في إدارة الصراعات الداخلية والخارجية يُعَدّ من أكثر الأمثلة «الدولتية» إثارة للجدل في العالم، وذلك منذ قيام الثورة الإيرانية في عام 1979، وترسيخها لنمط في إدارة الحكم استطاع أن يؤالف على نحو مثير، ما بين الثورة والدولة، بتعبير آخر ما بين النزعتين الدينية الثيوقراطية والسياسية البراغماتية. وهو ما جعل إلى جانب أمور أخرى كثيرة (مثل النزوع الراديكالي لثورة الخميني، النقمة على نظام الشاه الموالي للغرب...) من هذه التجربة محطّ إعجاب الكثير من اليساريّين وورثة حركات التحرّر الوطني، الذين وجدوا فيها ملاذاً ما في مواجهة المدّ الامبريالي الأميركي المتعاظم بعد انفراط عقدهم، وتقطّع سبل الوصول إلى صيغة ناجعة ليسار علماني ديموقراطي ومناهض للأمركة في آن معاً (أي يسار ممانع بحسب الصياغة اليساروية الجديدة لمفهوم مناهضة الأمركةوقد ذهب إعجاب هؤلاء اليساريين بالتجربة الإسلامية في إيران، وإغفالهم لأخطائها ومثالبها الكثيرة، حدّاً باتت معه ثنائية إشكالية ومزمنة كثنائية رجل الدين ـــــ رجل الدولة، بحكم المنتهية أو النافلة، على اعتبار أنّها غدت بفعل الممارسة العملية سمة أساسية من سمات النظام الإيراني، وعاملاً فاعلاً في استقراره وازدهاره، وبالتالي لم يعد النقاش المتّصل بفكرة علمنة النظام السياسي في إيران وإبعاد شبح الأصولية عنه يشغل بال المراقبين للشأن الايراني في الداخل والخارج، بقدر ما بات يشغلهم موضوع الإصلاح من داخل النظام الإسلامي نفسه، أي تخليصه من وطأة الإرث الثقيل لثيوقراطية السلطة الدينية المعروفة باسم ولاية الفقيه.
وقد جرى تصريف هذا الهاجس الإصلاحي في السياستين الخارجية والداخلية لإيران على النحو الآتي:
أولاً، في السياسة الداخلية:
تميّزت المرحلة التي أعقبت وفاة الخميني في أواخر الثمانينيات من القرن الفائت وبداية تسعينياته بوفرة الصراعات الداخلية ما بين الأجنحة المختلفة للثورة الإيرانية، وهو الصراع الذي اتخذ من ثنائية المحافظين ـــــ الإصلاحيّين وجهة له. وهذا ما لم يكن ليتحقّق لولا انتهاء الحقبة الخمينيّة وانحسار ذهنية التسلّط الثيوقراطي المرافق لها على المجتمع الإيراني بكل تلاوينه وتنويعاته.
ولا يكون المرء مجانباً للصواب حين ينسب إلى هذه الفترة بالذات فضل إطلاق ورشة الإصلاحات السياسية والمجتمعية والاقتصادية التي طالت أوّل ما طالت فكرة التعاقد ما بين الدولة والمجتمع، وهو التعاقد الذي جعل من المواطن الإيراني ـــــ بخلاف الفترة السابقة ـــــ شريكاً أساسياً في الحكم، ورقيباً حقيقياً على عمل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في هذا البلد، الأمر الذي يطرح جملة من التساؤلات عن سبل تفعيل وتثمير هذه الرقابة الأخلاقية والشعبية، واستطراداً عن الهامش الذي يمكن لديناميات مجتمعية وسياسية كهذه التحرك فيه، في ظل سطوة المؤسّسة الدينية ونفوذ مرشد «الثورة» الحالي علي خامنئي، الذي وإن كان يُحسب لعهده إفراجه عن حيويّات سياسية ومجتمعية لطالما اضطُهِدَت سابقاً، إلّا أنّه يبقى في النهاية وريثاً للتقاليد الثيوقراطية المهترئة التي أرساها خلفه ضمانةً لاستقرار الحكم بصيغته القديمة، والحفاظ على المكتسبات الأكثر تشدّداً لنظام «الملالي».
وهذا إن دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على استحالة الركون إلى فكرة الإصلاح، إذا ما انيطت هذه الفكرة بالمؤسّسة الدينية الإيرانية والمجالس التابعة لها والخاضعة لسيطرتها مثل «مجلس صيانة الدستور» و»تشخيص مصلحة النظام»، و«مجلس المراقبين» و«الحرس الثوري»... التي يمكن من دون كثير عناء وسمها بالمقفَلة، ما دامت غير منتَخَبة وغير خاضعة لسلطة الرقابة الشعبية، مثلما هي حال مجلس الشورى على سبيل المثال، إذ هي مؤسّسات ترتبط مباشرة بسلطة مرشد «الثورة» وتدين له دون غيره بالولاء المطلَق والأعمى، على اعتبار أنّ آلية اختيار أعضائها تتمّ بالتعيين لا بالانتخاب، وذلك من المرشد شخصيّاً.
لذلك، لا يمكن في حال من الأحوال التعويل على هذه المؤسّسات في عملية الإصلاح، خصوصاً في هذه المرحلة التي تشهد هجوماً غير مسبوق على التجربة الإيرانية، بذريعة الدور «التخريبي» الذي تمارسه إيران في مناطق النفوذ الأميركي الشرق أوسطي، أي في العراق ولبنان وفلسطين.
يجدر التذكير بأنّ مسيرة الإصلاح في إيران وفي غيرها من الأنظمة الأوتوقراطية ذات النزوع الديموقراطي المحدود، غالباً ما تتعثّر عند التعرّض لضغوط وابتزازات دولية وإقليمية، كالتي تشهدها إيران هذه الأيّام بخصوص ملفّها النووي ودعمها للمقاومات المتعدّدة في هذه المنطقة. وغالباً أيضاً ما يترافق انحسار المجهود الإصلاحي مع تعاظم نفوذ القوى المتشدّدة والمناهضة بشكل مطلَق للسياسة الغربية في الشرق الأوسط، سواء تلك الأميركية منها أو الأوروبية. وهذا ما قد يفسّر تواري رموز إصلاحية كبيرة في إيران عن الأنظار هذه الأيام على وقع طبول الحرب، التي تقرعها أميركا وحلفاؤها في المنطقة والعالم. فالوقت الحالي لا يبدو ملائماً كثيراً لأمثال محمد خاتمي وعلي شريعتي وسواهما كي يدلوا بدلوهم الإصلاحي واللبرالي المعهود، ما دامت المصلحة العليا للنظام الإيراني تقتضي الاستعاضة عنهم حالياً بنماذج سلطوية تستطيع إمساك العصا من وسطها، بمعنى آخر قادرة على الموازنة ما بين نزوع راديكالي مناهض للتهديدات الغربية ولاجم لاندفاعتها العدوانية، وآخر براغماتي لا يقطع مع الغرب، بل يلعب على تناقضاته، ويمارس سياسة تقطيع الوقت، حتى يُتاح له إمكان الوصول إلى صفقة ما، تطوي الملفّات الإقليمية العالقة مثل الملف النووي والعلاقة مع العراق ولبنان وفلسطين إلى غير رجعة.
ثانياً، في السياسة الخارجية:
لطالما كان ملفّ السياسة الخارجية الإيرانية مثار تنازع المعسكرين الأساسيّين في هذا البلد، أي المحافظين والإصلاحيّين، وإن حصل وعُقِدَت الغلبة لأحدهما، فستكون على حساب الآخر وثوابته الاستراتيجية لا محالة. لذلك لا يمكن الزعم بخلاف السائد والشائع أن التناقض الأساسي في إيران إنّما ينحصر في مجال السياسة الداخلية، أي في الأمور المتّصلة بشؤون الأحزاب والحريّات العامّة ودور المرأة والشباب... من دون أن يتعدّاها إلى مجال السياسة الخارجية والعلاقة مع الأطراف الإقليميّين والدوليّين، إذ إنّه ـــــ أي التناقض أعلاه ـــــ من الحدّة والجذرية بحيث لا يمكن حصره أو استيعابه في مجال سياسي دون الآخر. وهذا ما تشهد عليه صورة العلاقة الإشكالية مع الغرب الأميركي والأوروبي، وهي علاقة بدأت عدائية في الطور الأول من حكم «الثورة»، ثم ما لبث هذا العداء أن تراجع لمصلحة علاقة أكثر «توازناً» وهدوءاً في الطور الثاني الذي شهد تولّي الإصلاحيين لمقاليد السلطة، قبل أن تعود العلاقة للتأزّم مجدّداً مع وصول المحافظين أخيراًَ إلى السلطة، لكن هذه المرّة بخطاب أكثر راديكاليّة من السابق.
والطريف في الأمر، أنّ الأطوار الإيرانية المختلفة التي تخلّلت هذه العلاقة، ترافقت مع أطوار مشابهة في الغرب، وخصوصاً في واشنطن، حيث شهدت هذه الفترة الممتدّة من أوائل ثمانينيات القرن الفائت، إلى بدايات القرن الحالي تداولاً أميركياً للسلطة حسب التراتبية الحزبية الآتية:
يمين متطرّف مع رونالد ريغان/ يمين وسط مع جورج بوش الأب/ يسار وسط مع بيل كلينتون/ يمين متطرّف مجدّداً مع جورج بوش الابن. لذلك يبدو من القصور منهجياً ردّ أسباب التأزم في العلاقة الأميركية ـــــ الإيرانية إلى الطرف الإيراني وحده، دون الوقوف على السلوك الأميركي الذي اتسم دائماً بالعدائية المفرطة، وإن تخلّلته أحياناً اختراقات دبلوماسية طفيفة، كتلك التي ميّزت عهد بيل كلينتون ووزيرة خارجيته مادلين أولبرايت.
غير أنّ الافتراق الأيديولوجي والعقائدي ما بين المعسكرين الإصلاحي والمحافظ في السياسة الخارجية، لا يلبث أن ينتهي بمجرّد الاقتراب من المنهجية البراغماتية التي يسير على هديها هذا النظام الثيوقراطي منذ تأسيسه. وتستوي في هذا الأمر كل أجنحة السلطة في إيران، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فيما يشبه ائتلافاً غير معلَن يلتئم عند المسّ بثوابت وأساسيات نظام «الثورة»، أي الثوابت المتّصلة بمسائل الأمن القومي واستقرار النظام ومواجهة حروب محتملة من قبل الأعداء الخارجيّين...
في هذا الموضع، لا يجد الإيرانيّون على اختلاف أطيافهم غرابة تُذكَر في المزاوجة ما بين نهج عقائدي يحافظ على أهداف «الثورة» ويصون تطلّعاتها، وبين نهج براغماتي وذرائعي ينحو إلى سياسة الأحلاف المتنقّلة والتوازنات الإقليمية، في محاولة لدرء الأخطار المحتملة والحدّ من الخسائر المترتّبة عنها قدر الإمكان.
تندرج في هذا الإطار سياسة الرئيس الحالي أحمدي نجاد تجاه التهديدات الأميركية والأوروبية بشنّ الحرب وفرض عقوبات اقتصادية على بلاده، حيث يحاول نجاد جاهداً إمساك العصا من وسطها، عبر انتهاج سياسة راديكالية وممانعة للتهديد الغربي، لكنها في الوقت ذاته، سياسة لا تقطع مع الجهود الدبلوماسية المبذولة من أطراف محايدة إلى حدّ ما، مثل الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وهذه أطراف تحاول ما أمكنها احتواء أزمة الملف النووي الإيراني وإيصالها إلى خواتيم وحلول مرضية ومقبولة، كتلك التي وصلت إليها المفاوضات مع كوريا الشمالية.
لكنّ سياسة التوازن والأخذ والردّ هذه لن تجدي نفعاً، ولن يُكتَب لها النجاح ما لم ينفرط عقد الحلف المثلَّث الأميركي ـــــ الفرنسي ـــــ الإسرائيلي، والذي يبدو حسب المواقف غير المعلَنة لأقطابه في حلّ كامل من الوساطات والجهود الدبلوماسية العاملة على خطّ التوتّر المشترَك، وهذا يعني على أقلّ تقدير أنّه حاسم في خياراته التي لا ترى سبيلاً إلى «الحل»، إلا بوأد التجربة الإيرانية الإسلامية وإسقاط نظامها الثيوقراطي، وذلك بعدما استنفد هذا الحلف الحربي كل الحلول والمخارج التي كان يُفترَض بها إنقاذه من مآزقه الشرق أوسطية، وبالتالي إنجاح تجاربه ووصفاته الكولونيالية البائسة في كلّ من العراق ولبنان وفلسطين.
* كاتب سوري