وهيب معلوف *
يسعى كلّ نمط من التفكير إلى الهيمنة عبر إطلاق عدّةً مفهومية تخاطب بدهياتنا وغرائزنا، قيمنا ورغباتنا،وكذلك الإمكانات الموجودة في العالم الاجتماعي الذي نعيش فيه. وفي حال نجاحها، تصبح هذه العدّة المفهومية مغروسة في ما يسمّيه أنطونيو غرامشي «الحسّ المشترك»، بحيث يتمّ التعامل معها بصفتها بدهيات غير خاضعة للمساءلة. الآباء المؤسّسسون للفكر النيولبرالي أخذوا مثالَين سياسيَّين، هما الكرامة الانسانية والحرية الفردية، ورفعوهما إلى مرتبة «القيمتين المركزيّتين للحضارة». وبحسب هؤلاء، فهذه القيم ليست مهدَّدة من الفاشية ولا من الديكتاتوريات والشيوعية فحسب، بل من الأشكال المتعدّدة لتدخّل الدولة الذي يستبدل حرية الفرد في الاختيار بالأحكام الجماعية.
مفاهيم الكرامة والحرية الفردية هي بحدّ ذاتها جذّابة وشديدة التأثير. فهي ألهمت التلاميذ في ميدان تياننمن في الصين مثلما ألهمت الحركات الاعتراضية في أوروبا الشرقية والاتّحاد السوفياتي في الحقبة التي سبقت انتهاء الحرب الباردة. أمّا الحركات الطلابية التي اكتسحت العالم في عام 1968، فقد استمدّت الكثير من طاقتها من الرغبة في توسيع نطاق حرية التعبير والاختيار الشخصي.
تضرب فكرة الحرية عميقاً في التقليد الأميركي، وقد أدّت دوراً واضحاً في البلاد خلال السنوات الأخيرة. وفي السياق، فُسِّرَت أحداث 11 أيلول الإرهابيّة من كثيرين، على أنّها اعتداء على هذه الحرية. «البشرية»، كتب الرئيس جورج بوش في الذكرى السنوية الأولى لذلك اليوم المشؤوم، «تمتلك بين أيديها الفرصة لتوفير انتصار الحرية على جميع أعدائها التاريخيّين»، و«الولايات المتحدة ترحّب بمسؤوليّاتها للقيادة في هذه المهّمة العظيمة». وفي خطاب لاحق، رأى بوش أنّ «الحرية هي هبة الله لكلّ رجل وامرأة في هذا العالم»، مضيفاً «بصفتنا أعظم قوّة على وجه الكرة الارضية، علينا واجب المساعدة في نشر الحرية».
وعندما ثبت تهافت جميع الحجج لتسويغ الحرب الاستباقية على العراق، استنجد بوش بفكرة أنّ الحرية التي سوف تسبغ على العراق، تمثّل بحدّ ذاتها تبريراً كافياً لشنّ الحرب. لكن إلى أي وجهة من المتوقَّع أن يسير العراقيون بحصان الحرية المسبغ عليهم بقوة السلاح؟
جواب الإدراة الأميركية عن هذا السؤال ظهر إلى العلن في ايلول من عام 2003 عندما أعلن رئيس الادارة المدنية للإشراف على إعادة إعمار العراق، بول بريمر، أربعة قرارات تضمّنت «الخصخصة الكاملة للمرافق العامّة، وإعطاء الشركات الأجنبية الحقوق الكاملة في تملّك مشاريع الأعمال العراقية، والحقّ بتحويل كامل الأرباح الأجنبية إلى الخارج، وتشريع المصارف العراقية أمام السيطرة الأجنبية، إلى جانب معاملة الشركات الأجنبية أسوة بتلك الوطنية، وأخيراً إلغاء شبه كامل لجميع العوائق أمام التجارة». طالت هذه القرارات معظم قطاعات الاقتصاد ومن ضمنها الخدمات العامّة والإعلام والصناعة والخدمات والنقل والاسواق المالية والبناء. ومن جهة أخرى، تمّ إخضاع سوق العمل لرقابة مشدّدة تزامناً مع حظر الاضرابات في القطاعات الاقتصادية الاساسية وفرض قيود على الحق بإنشاء النقاباتوفق النظرية النيوليبرالية، هذه المقرّرات هي ضرورية وكافية معاً لإنتاج الثروة، وبالتالي تحسين المستوى المعيشي للغالبية الساحقة من الشعب. أمّا الافتراض بأن ضمان الحريات الفردية يكمن في إطلاق حرية السوق والتجارة، فيشكّل سمة أساسية للفكر النيولبرالي، وقد هيمن طويلاً على مواقف الولايات المتحدة الدوليّة.
كان جلياً أنّ الولايات المتحدة سعت ـــــ بواسطة القوة ـــــ إلى فرض جهاز الدولة في العراق مهمّته الرئيسية المساهمة في تأمين الظروف المؤاتية لتراكم رأسمالي مربح فيما يخص الرأسمال الأجنبي والمحلّي على حدّ سواء. أمّا الحريات التي تتمسّك بها هذه الدولة، فتعكس أوّلاً وأخيراً، مصالح أصحاب الأملاك الخاصّة، الشركات المتعدّدة الجنسيات ورأس المال المضارب. باختصار، دعا بريمر العراقيين لركوب حصان الحرية والدخول به مباشرة إلى الحظيرة النيوليبرالية.
الجدير بالذكر أنّ التجربة الأولى في بناء الدولة النيوليبرالية، حصلت في تشيلي عقب انقلاب اوغوستو بينوشيه في أيلول 1973، على حكومة سلفادور الليندي المنتخبة ديموقراطياً. تمّ الانقلاب بتشجيع من النخب المالية المحلية ـــــ الخائفة من نزوع الليندي نحو الاشتراكية ـــــ وحظي بدعم الشركات الاميركية الكبرى، ووكالة الاستخبارات المركزية الاميركية ووزير الخارجية الأميركية حينها هنري كيسينجر. وأعقب الانقلاب قمع للحركات الاجتماعية والتنظيمات السياسية اليسارية وتفكيك لجميع أشكال التنظيمات الشعبية مثل المراكز الطبية المحلية في الأحياء الفقيرة. أمّا سوق العمل فقد تمّ «تحريره» من الضوابط المؤسّساتية. لكن كيف السبيل الى إحياء الاقتصاد التشيلي المتباطئ في ظلّ فشل محاولات التنمية الاقتصادية في أميركا اللاتينية والتشيلي خصوصاً؟
تمّ استدعاء فريق من الاقتصاديّين التشيليّين الذين عُرفوا بـ «فتيان شيكاغو» ـ بسبب ايمانهم بالنظريات النيوليبرالية لميلتون فريدمان، أستاذ الاقتصاد في جامعة شيكاغو آنذاك ـــــ للمساعدة في إعادة بناء الاقتصاد التشيلي. وقد أشرك بينوشيه هؤلاء الاقتصاديّين في الحكومة حيث قاموا، بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، بخصخصة المرافق العامّة، تشريع الموارد الطبيعية أمام الاستغلال الخاص وغير المقيد، خصخصة الضمان الاجتماعي وتمهيد الطريق أمام الاستثمار الأجنبي المباشر والتجارة الحرّة. هذا بالإضافة إلى ضمان حقّ الشركات الأجنبية في تصدير أرباحها إلى خارج البلاد.
غير أنّ هذا الإحياء السريع للاقتصاد التشيلي من حيث معدلات النمو والتراكم الرأسمالي كان قصير الأمد، إذ إنّ الاقتصاد المذكور سوف يتعرّض لانتكاسة كبيرة خلال أزمة الديون الأميركية اللاتينية في عام 1982. ونتيجة لذلك، تمّ اعتماد سياسات نيوليبرالية أكثر براغماتية في السنوات التي تلت، وهي سياسات وفّرت دلائل دعمت الانعطاف نحو النيوليبرالية في كلّ من بريطانيا والولايات المتّحدة في الثمانينيات.

صعود النظرية النيوليبرالية

يوضح الباحث البريطاني دايفيد هارفي أنّ «النيوليبرالية كترياق ضدّ المخاطر المحدقة بالنظام الاجتماعي الرأسمالي وكحلّ لأزمات الرأسمالية كانت كامنة منذ أمد طويل في أروقة السياسة العامّة». كانت مجموعة صغيرة من الدعاة المتحمّسين للنيوليبرالية (ومعظمهم اقتصاديون ومؤرخون وفلاسفة)، قد تحلّقت حول الفيلسوف السياسي المحافظ فريدريش فون هايك لتأسيس جمعية «مونت بيليرين» (المسمّاة على اسم المنتجع السويسري حيث اجتمعوا للمرّة الأولى) في العام 1947. ويشير هارفي إلى أنّ أعضاء الجمعية وصفوا أنفسهم على أنهم لبراليون نسبة إلى التزامهم العميق بالحرية الفردية. أمّا المصطلح النيوليبرالي، فقد أعلن بحسب هارفي، التصاق هؤلاء بمبادئ السوق الحرّة التي ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لتحلّ مكان النظريات الكلاسيكية لآدم سميث ودايفيد ريكاردو وطبعاً كارل ماركس. إلا أنهم أيّدوا أيضاً مفهوم «اليد الخفية» لسميث التي تعمل على تعميم الازدهار من خلال السوق و المنافسة الحرة. لذا أبدت النيوليبرالية معارضة شديدة لنظرية جون ماينارد كينز عن تدخّل الدولة في الدورة الاقتصادية والتي عرفت أهمية كبيرة في الثلاثينيات والأربعينيات، حيث وجد العديد من واضعي السياسات في الكينزية دليلاً لهم في سعيهم إلى تصحيح اختلالات السوق والحدّ من دورية وشمولية الأزمات الرأسمالية. ومن هنا أيضاً، إنّ معارضة النيولبراليّين كانت أكثر شراسة ضدّ نظريات التخطيط المركزي، كتلك التي طرحها الاقتصادي المجري أوسكار لانجه في الستينيات. ذلك أنّ التخطيط، بحسب رأيهم، يحول دون الوصول إلى معلومات اقتصادية دقيقة وخصوصاً المعلومات عن الاسعار والعرض والطلب وفرص الاستثمار.
وقد حظيت جمعية «مونت بيليرين» بالدعم المالي والسياسي، خصوصاً في الولايات المتحدة حيث سعى فريق نافذ من الأثرياء ورؤساء الشركات لتأسيس معارضة تقف في وجه أيّة محاولة محتمَلة لإعطاء دور أكبر للدولة في الحياة الاقتصادية. غير أنّ فرض النيوليبرالية نفسها عقيدةً ترشد السياسات على مستوى الدولة في العالم الرأسمالي المتقدّم حصل في بريطانيا في العام 1979 (مع وصول مارغريت ثاتشر الى رئاسة الحكومة) وفي الولايات المتحدة في عام 1980 (مع رونالد ريغان).

أيّة حرية؟

إنّ قراءة تاريخ النوليبرالية وانتشار أفكار جمعية «مونت بيليرين» بما هي «الأفكار الحاكمة» للعصر، تصبح ذات مغزى أكبر عند مقارنتها بالأفكار التي طرحها المجري كارل بولانيي في العام 1944، أي قبل ثلاث سنوات من نشوء الجمعية المذكورة. أشار الأخير إلى أنّه في مجتمع مركّب، تصبح الحرية محمَّلة بمعانٍ متناقضة بقدر ما هي جذّابة من حيث تحفيزها للعمل. هناك، بحسب بولانيي، نوعان من الحريّة: واحد صالح والآخر فاسد. من ضمن النوع الأخير، أدرج بولانيي «حرية الفرد في استغلال زملائه، أو الحرية في جني أرباح طائلة من دون تقديم خدمة مقابلة للمجتمع، الحرية في عدم وضع الاختراعات التكنولوجية في خدمة المنفعة العامة، أو الحرية في الإفادة من الكوارث العامّة المهندَسَة بسرية من أجل المنفعة الخاصة». إلّا أنّه أضاف بأنّ «اقتصاد السوق الذي أسهم في نموّ هذه الحريات قد أنتج أيضاً حريات نثمّنها عالياً، وهي حرية الضمير، حرية التعبير، حرية الاجتماع، حرية التنظيم، حرية اختيار العمل». ففيما يمكننا أن نقدّر عالياً هذه الحريات بحدّ ذاتها، فقد كانت إلى حدّ كبير «نتاجاً لنفس الاقتصاد الذي كان أيضاً مسؤولاً عن الحريات الفاسدة». وعليه، يستنتج بولانيي بأنّ فكرة الحرية «تتقهقر إلى مجرّد دعوة للحرية الاقتصادية»، ما يعني «الحرية الكاملة لأولئك الذين لا يحتاجون إلى أي سند فيما يختص بمدخولهم، رفاهيتهم، وضمانهم، ومجرّد جزء صغير من الحرية للناس الذين قد يحاولون، دون كبير جدوى، استعمال حقوقهم الديموقراطية لتأمين ملجأ يحميهمم من سلطة أصحاب الأملاك». ويخلص إلى أنّه في مجتمع لا يخلو من السلطة والقمع، تصبح المحافظة على هذه النظرة الليبرالية ممكنة فقط عبر القوّة، العنف والتوتاليتارية.
تحليل بولانيي يوفّر أرضية انطلاق يمكن من خلالها فهم ما يعنيه الرئيس بوش عندما يؤكد « بصفتنا أعظم قوّة على وجه الكرة الأرضيّة، علينا واجب المساعدة في نشر الحرية». ويساعد أيضاً في فهمنا لنزوع النيوليبرالية نحو العنف والأساليب غير الديموقراطية في الوقت الذي «تمتلك البشرية بين أيديها الفرصة لتوفير انتصار الحرية على جميع أعدائها التاريخيّين». كذلك يلفت انتباهنا إلى العدد الكبير من الشركات التي جنت أرباحاً طائلة سواء عبر حجب منافع تكنولوجياتها عن الحيّز العام أم عبر أهوال الحروب، المجاعة والكوارث البيئية. وأخيراً، يتّضح لنا لماذا يتحمّس أصحاب السلطة والثروة لنشر مفاهيم معينة للحقوق والحرية، ويحاولون إقناعنا بصوابيّتها.
* باحث لبناني