صباح علي الشاهر *
لم يكن بعيداً عن التوقّع أن تدخل تركيا في المستنقع العراقي، وهي وإن حاولت النأي بنفسها عن المشاركة في ما يجري في العراق منذ رفضت أن تكون جسراً لمرور القوّات الأميركيّة، أو أن تكون قاعدة أنجرليك هي منطلق القوّات الغازية، إلّا أنّها كانت تراقب عن كثب وباهتمام بالغ تطوّرات الوضع العراقي، وبالأخص في المنطقة الكرديّة. لقد التزمت تركيا موقفاً محايداً شكليّاً، باستثناء دعمها للتركمان في صراعهم ضدّ الأكراد، وحاولت أن تكون علاقتها مع السلطات العراقية والسلطات الإقليمية الكردية شبه عاديّة. وقد دفعت شركاتها إلى دخول السوق الاقتصادية في كردستان العراق. إذ إنه من المعروف أنّ أكثر من ألف شركة تركية، بين كبيرة وصغيرة، تعمل في الإقليم منذ عام 2003. على سبيل المثال، تقوم شركة تركية ببناء جامعة السليمانية بكلفة تقدَّر بـ250 مليون دولار، وتقوم شركة أخرى ببناء مطار أربيل الدولي بكلفة قدرها 480 مليوناً، ويقدَّر إجمالي النشاط التركي في كردستان العراق بما قيمته 5,2 مليار دولار، وهو رقم كبير جدّاً، سيؤثّر حتماً في الوضع الاقتصادي في كردستان في حال إيقافه أو تجميده. ورغم أنّ تركيا قد أسهمت وشاركت في كلّ اجتماعات دول الجوار العراقي ولقاءاتها، إلا أنّها لم تكن طرفاً كحال الدول الأخرى، إيران أو سوريا أو السعودية. لكن تركيا من جهة أخرى، تحمل تصوّراً مشتركاً مع جارتي العراق الأخريَين، إيران وسوريا، في ما يتعلّق بالموقف من الدولة الكردية، أو الفدرالية الكردية بالصورة التي يعلنها الحزبان الكرديّان العراقيّان. كما أنّها كانت تعمل بصمت وهدوء، عبر مؤتمرات تُعقَد تحت غطاءات متنوعة، تداوليّة وبحثيّة، لتدارس الوضع العراقي. وممّا لا شكّ فيه أنّ تركيا تحمل تصوّراً متكاملاً لما ينبغي لها فعله عند حدوث ما كانت تحذّر من حدوثه. دخول تركيا في المستنقع العراقي كان متوقّعاً، لكنّ شكل هذا التدخّل لا أحد يتوقّعه، ويعتمد مداه على نوعيّة الموقف الكردي، وتحديداً موقف الحزبين الكرديَّين، ليس من حزب العمّال الكردي فقط، بل أيضاً موقفهما من حقوق التركمان في العراق، ومن كركوك.
قد تكتفي تركيا بالتلويح بالقوّة دون استعمالها على نطاق واسع، إذا حقّق هذا التلويح ما تصبو إليه، أو إلى ما وضعته في حساباتها. وما تضعه تركيا في حساباتها هو مطاردة حزب العمّال، وتفكيك قواعده وتسليم قياداته لها، والامتناع عن التلويح بالانفصال عن العراق وضمّ كركوك إلى كردستان، والاعتراف بحقوق التركمان في الإسهام في إدارة المناطق التي يمثّلون النسبة الأكبر فيها، وكذلك الإسهام في إدارة البلد ككلّ، وعدم تهميشهم. ولقد ذهبت تركيا بالتلويح بالقوّة إلى أقصى مدى، بحيث لم يعد أمامها من خيار سوى استعمال القوّة إذا لم تستجب القيادات الكردية لاشتراطاتها.
حتّى اليوم، فإنّ الخاسر الأكبر على ما يبدو هو القيادات الكرديّة التي تصرّفت بعنجهية معتمدة على دعم المحتلّ، المشكوك فيه، ليس مع الأتراك فحسب، بل أيضاً مع باقي العراقيّين من عرب وتركمان، ومع الأقطار العربيّة أيضاً، بحيث عزلت هذه القيادات نفسها معزّزة لدى أتباعها الشعار الذي يقول «ليس للأكراد من صديق سوى الجبل». والجبل حجر أصمّ لا روح فيه، أمّا الأكراد فبشر، من روح ودم وعواطف، يحتاجون إلى العيش كأصدقاء مع الناس الذين يعيشون معهم، والذين يربطهم بهم تاريخ مشترَك وقيم وعادات وعقائد وطموحات متشابهة. إنّ تكريس عزلة الأكراد عن محيطهم، لا يخدم سوى الساسة المستفيدين من هذه العزلة، وهذه الأزمة أثبتت أن ليس لأكراد العراق سوى عراقهم، حتى لو قُيِّض لهم الانفصال عن العراق، فإنّ الآخرين لن يجعلوهم ينعمون به، بل سيكون وبالاً عليهم. ينبغي أن يتصرّف أكراد العراق كعراقيّين أمام التهديد، وربّما الابتزاز التركي، وينبغي أن يكون اعتمادهم لا على المحتلّ الذي سيرحل آجلاً أم عاجلاً، بل أن يكون كل اعتمادهم على أبناء وطنهم من العراقيّين بكل أطيافهم، وينبغي أن يتّصف خطابهم بالرغبة الأكيدة في العيش المشترك، لا في محاولات ابتزاز الآخرين، واستغلال ظروفهم الصعبة.
على القادة الأكراد إعادة النظر في نهجهم، وخفض سقف طموحاتهم ومطالبهم، وعليهم أن يدركوا أن ليس بإمكانهم إجبار أمم قويّة وكبيرة كالأمّة العربية والتركية والفارسية على الخضوع لرغباتهم، وهم إن صعدوا أو نزلوا، ليسوا أكثر من قادة أحزاب يملكون ميليشيات. ومهما كانت النتيجة التي ستؤول إليها الأحداث، وسواء أوقع التدخّل التركي في شمال العراق أم لم يقع، ومهما كانت درجة هذا التدخّل إن حصل، فإنّ على القيادة الكردية أن «تنزل عن بغلتها».
تركيا بكلّ ثقلها، وإرثها ومطامحها تدخل المستنفع العراقي، وتضيف تعقيداً آخر إلى القضية العراقية البالغة التعقيد أصلاً. منذ الآن، وإلى مدى غير منظور، سيلاحظ المراقبون والمحلّلون طبيعة التعاطي التركي مع القضية العراقيّة ككل ومع القضية الكردية، وهي الأهمّ بالنسبة إليهم. وتملك تركيا أوراقاً لا يُستهان بها، تستطيع عبرها ومن خلالها أن تصبح لاعباً أساسيّاً لا ثانوياً أو هامشيّاً، فهل سيقترن الحديث عن العراق بالحديث عن تركيا؟ وهل ستكون تركيا عاملاً من عوامل عدم تفكّك العراق، أم أنّها ستسهم في تفكيكه؟ ذلك ما ستحدّده الأيام القادمة.
* صحافي عراقي