يسار أيوب *
نظريّاً، لا يمكن اعتبار التعدّدية السياسية عنصراً مكوّناً من عناصر النظام الديموقراطي، وإن كان شرطاً أساسياً لاستمراريته. فالديموقراطية، بعناصرها الأوليّة، تعرَّف بثلاثة مكوّنات، هي: الحريّة، احترام حقوق الإنسان والفصل بين السلطات الثلاث (القضائيّة، التشريعيّة والتنفيذيّة)، والتداول السلمي للسلطة. بينما تدخل التعدّدية السياسية إلى جانب الانتخابات وتنظيمات المجتمع المدني تحت عنوان شروط أساسيّة لتسهيل العمليّة الديموقراطية في المجتمعات المعقّدة الحديثة. فالتعدّدية السياسية هي عملية تأطير للصراع السياسي حول السلطة تحكمه قاعدة التغيير والتداول السلمي في ما يمكن اعتباره أهم سمة من سمات النظام الديموقراطي. ومجرّد وجود التعددية في نظام ما، لا يعني أنّه نظام ديموقراطي، وهو ما يسود العديد من أنظمة العالم الثالث الديكتاتورية التي تحتمي خلف واجهة من التعدّدية السياسية المزيّفة، بينما في الحقيقة يستمدّ النظام شرعيّته من عناصر تنتمي إلى سياقات ما قبل الدولة.
الديموقراطية في الأساس هي نظام سياسي، يكون فيه الإنسان أساساً وغاية، وليس مجرّد وسيلة أو رقماً مغفّلاً في سجلّات خدمة النظام. ويمكن أن نتساءل هل كانت الحالة كذلك في النظام السياسي الفلسطيني؟
منذ بداية الوعي الوطني الفلسطيني في بدايات القرن العشرين، تشكّل العديد من النظم السياسية الوسيطة (كالأحزاب والجمعيات الإسلامية ـــــ المسيحية والمؤتمرات الوطنية الفلسطينية). غير أنّها، وفي محاولتها القتال على جبهتين سياسيّتين (الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية)، لم تجد وسيلة لتكون حالة وحدويّة في إطار الاختلاف داخل الوحدة، وإنّما كان التشرذم عنواناً أساسيّاً لها، ناهيك عن أنّ هذه التشكيلات لم تضع في حسابها الإنسان، بل وضعت هذا الإنسان في خدمة «الهدف النبيل». نودّ القول هنا إنّ التاريخ السياسي للشعب الفلسطيني شهد، منذ بدايات وعيه بفلسطينيّته، أشكالاً من التعددية، غير أنّها لم ترتقِ إلى مستوى التعددية الديموقراطية. وفي حالة منظّمة التحرير الفلسطينية، تبدو الديموقراطية مغيّبة منذ تأسيسها حين «طالب الشعب بالمعسكرات، لا بالانتخابات»، على حدّ تعبير الشقيري آنذاك، وبذلك دخلت المنظّمة في صراع مع القوى الفلسطينيّة الآخذة بالتشكّل والبادئة لتوّها بممارسة العمل العسكري. وبعد عام 1969، وسيطرة الفصائل الفلسطينية المسلّحة عليها، أصبحت التعدّدية السياسية أساساً مكوِّناً في الحياة السياسية الفلسطينية. غير أنّها لم تكن تعبيراً عن حالة ديموقراطية تعيشها منظّمة التحرير.
التعددية السياسية التي تعكس حالة ديموقراطية، هي في الأساس تعدّدية طبيعية تنشأ نتيجة حالة الحراك السياسي في المجتمع، لتكون معبِّرة عن مجمل الآراء السياسية فيه. والتعدّدية الفلسطينية لم تندرج تحت هذا الوصف، فهي ناتج التشتّت الجغرافي للشعب الفلسطيني، بالإضافة إلى التداخل الشديد للعامل العربي المضيف، حين لم يكن للفلسطيني إلّا أن يتماهى مع الحالة العربية بكل ما فيها من إشكاليات. وبهذا رأينا فصائل فلسطينية تتأسّس بشكل رسمي كأجنحة فلسطينية لأحزاب قومية عربية (جبهة التحرير العربية التابعة لبعث العراق، ومنظّمة الصاعقة التابعة لبعث سوريا) بالإضافة إلى فصائل أخرى ارتبطت عضوياً بأنظمة عربية معيّنة، وفي حين حاولت فصائل أخرى التمدّد باكراً باتجاه المركز الأممي السوفياتي. فالحالة إذاً في بعد هام من أبعادها تعبير عن واقع التشرذم الذي عاشه الشعب الفلسطيني بعد عام 1948 حين اضطرّ لتأسيس فضائه السياسي بعيداً عن الأرض، المكّون الأساسي للهوية الوطنية، وبالتالي حين أصبح للعامل الخارجي أهمية قصوى في هذا الفضاء الخاص. ولكي تكون التعدّدية السياسيّة تعبيراً عن حالة ديموقراطية سليمة، يُفتَرض بالأحزاب أن تكون ديموقراطية بشكل أو بآخر، باعتباره الحامل الأساسي للديموقراطية السياسية. فلا يمكن تخيّل حزب غير ديموقراطي في حياته الداخلية قادر على أن يكون ديموقراطياً في مجتمعه السياسي. وبنفس المكونّات الأساسية للديموقراطية في الدولة، يمكن قياس ديموقراطية الأحزاب. ويمكن الاستنتاج بأنّ الأحزاب والفصائل الفلسطينية، لم تشكّل رافعة ديموقراطية حقيقية في المنظّمة، حيث تميّزت الفصائل والمنظّمات الشعبية بنوع من حرية التعبير عن الرأي داخل الحزب أو الفصيل، غير أنّها وبنفس الوقت، تمتّعت بقدر كبير من المركزيّة، حيث حاكت في تركيبها الأحزاب الماركسيّة اللينينيّة «اللائقة بالعمل السرّي» على حدّ تعبير الدكتور عزمي بشارة. حيث انبنت معظم الفصائل الفلسطينية على النمط الرعوي، والعلاقة الأبوية بين مختلف تراتبيات الفصيل من الداخل، ونادراً ما شهدت هذه التنظيمات تغييراً في الهيكل القيادي لها، بل حتّى في الأشخاص، ما يدلّ على غياب مبدأ التداول السلمي للسلطة داخل الفصيل. ومن أهم الدلالات على عدم وجود هامش ديموقراطي واسع في التنظيمات، هو ظاهرة الانشقاقات الكثيرة التي شهدتها جميع القوى الفلسطينية من دون استثناء. وبالطبع يمكن لنا أن نردّ، استسهالاً، ظاهرة الانشقاقات الداخلية، وظاهرة الانقسام الكلّي على مستوى الساحة الفلسطينية، إلى عامل وحيد هو التدخّل العربي في الحياة الداخلية للتنظيمات الفلسطينيّة، حيث لم تكن معظم الانشقاقات معزولة تماماً عن تأثير هذه الدولة العربية أو تلك من الدول التي حاولت فرض وصاية من نوع ما على الخيار السياسي لمنظّمة التحرير الفلسطينية.
غير أنّ دمويّة الانشقاقات كانت دليلاً كافياً على عدم نضج مصطلح «الطلاق الديموقراطي» الذي فاخر به دوماً المنشقّون عن تنظيماتهم الأم. ناهيك عن كونها دليلاً على عدم بلوغ العلاقات الداخلية مرحلة متقدّمة من الحوارية والتبادلية، وضرورة الوجود الدائم لـ«الأب القائد والراعي» و«المعلّم».
لعب ياسر عرفات دور هذا القائد بالنسبة لتنظيم «فتح» بالأساس وبالنسبة لمنظّمة التحرير بدرجة أقلّ، حيث اعْتُبِر دوماً أنّه كان متسامحاً جدّاً مع معارضيه، كما نوّه الأستاذ صقر أبو فخر مستدلاً على ذلك من مجموعة محدّدة من الحوادث المتفرّقة. على المستوى الشخصي، ربما يكون عرفات متسامحاً، بل متسامحاً جدّاً، غير أنّ جزءاً أساسياً من المشكلة يكمن بالتحديد في هذ النقطة، حيث تعامل عرفات، وربما جميع قادة الثورة الفلسطينية بنوع من شخصنة العلاقات السياسية التي حكمت المنظّمة. فالمنّة التسامحية لم تكن لتنوجد، لو كانت العلاقات محكومة مؤسّسياً بين مكوّنات البيت السياسي الفلسطيني. ولم نكن لنضطرّ للاعتراف لعرفات أو لغيره بأنّه كان متسامحاً مع معارضيه أو شديداً. إضافة إلى أنّ تسامح عرفات لم يمسّ ما يمكن اعتباره محرّمات سياسية لديه. وكأيّ سياسي، كان من الممكن له أن يعاقب بقسوة أحياناً أو، كأي نمط بطريركي، كان له أن يمنح العفو. فالمشكلة ليست تسامحه أو عدمه، بل هو أن يكون رأسه وما ينتجه (إضافة إلى الرؤوس الأخرى في الصفّ القيادي الفلسطيني الأول)، هو القاعدة التي تحكم. وهنا يمكن قراءة تطوّر عملية اتخاذ القرار في المنظّمة من التوافق الكامل حتى عام 1982، ثم الغالبية حتّى عام 1988، ثمّ التفرّد التام الذي تجلّى بتوقيع اتفاقيات أوسلو، التي لم يكن يعلم بأمرها سوى قياديّين فلسطينيّين معدودين. فالعملية هنا كانت نتاجاً للمركزة التي تتيح للقائد اتخاذ القرارات المصيريّة التي لن يستطيع أحد أن يناقشه فيها أو يحاسبه عليها.
هل نستطيع محاسبة حركة تحرّر وطني فاقدة للسيادة الحقيقيّة على أرض وشعب وفق مقياس الديموقراطية؟ يجب الأخذ بالاعتبار أنّ من كان يسعى دائماً لاستجلاب الصفة الديموقراطية، صادقاً أم مدّعياً، هي منظّمة التحرير ذاتها. وبالتالي يمكن مناقشة ديموقراطيّتها التي تدّعي، دون تحميلها الكثير من إحباطات الظّرف المرهق الذي وُجِدَت فيه. وبذلك يمكن القول إنّ التعدّدية السياسية الفلسطينية كانت خارجة تماماً عن الإطار الديموقراطي التي لم تكن وليدته أصلاً، مع الاعتراف دوماً بتوافر هامش للتعبير عن الرأي السياسي، يتّسع ويضيق بحسب ظروف المرحلة، ولكنّه يظلّ بعيداً كل البعد عن التأصيل الديموقراطي الذي احتاجته المنظّمة ذات يوم، وللأسف، فإنه لم يتم.
* باحث فلسطيني