علاء اللامي *
جعجعة السلاح التركي المترافق مع تأليب سياسي و«اجتماعي» غير مسبوق للرأي العام في تركيا ضدّ الشعب الكردي في العراق، وضدّ الأمة الكردية عموماً، وما أثارته تلك الجعجعة من تجييش إعلامي قامت به الزعامات الكردية العراقية المتحالفة مع الاحتلال، يُراد لها أن تشطب، أو على الأقلّ أن تعتّم على البديهية الأولى التي تنزرع في جذر هذا الحدث الكبير الراهن، وهي المتعلّقة بحقّ الأمّة الكردية، كسائر أمم الكوكب، في تقرير المصير وبناء كيانها القومي الخاص.
لقد حاول القادة الأكراد العراقيون، خلال أيّام الأزمة الحالية، توظيف الأحداث الجارية لخدمة أجندتهم الحزبية الخاصة، بعيداً عن التضامن القومي المفترَض مع ملايين الأكراد في تركيا. وصدرت في هذا السياق بوادر عديدة تشير إلى هذا السلوك: تصريح مجموعة النوّاب التابعين للحزبين الكرديّين العراقيّين الكبيرين «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«الحزب الديموقراطي الكردستاني»، علناً بأنّ هدف تركيا من التصعيد الحالي هو وقف عملية ضمّ محافظة كركوك الغنية بالنفط، إلى الإقليم الذي تسيطر عليه وتحكمه ميليشيات هذين الحزبين، وتصريحات جلال الطالباني الذي فضّل أن ينصح، من فرنسا، قيادة حزب «العمّال الكردستاني» بأنّ عصر الثائر تشي غيفارا قد انتهى (كاد يضيف أنّ عصره هو قد ابتدأ! ولعل هذا ما حدث فعلاً لسوء الحظ). من جهتها، حاولت الزعامتان التركيتان، المدنية والعسكرية، وقد تناغم خطاباهما في هذه المناسبة كالمعتاد، بل وأكثر من المعتاد، أن توحيا بأن الأمور كانت، وإلى ما قبل ربع الساعة الأخير، على ما يرام، لولا ذلك الكمين الذي راح ضحيّته عدد من جنودها .. هكذا يريدون أن يصوّروا الأمر: برق ساطع وشاذ في سماء صافية الزرقة!
بدورها، لم تفوّت الزعامات العراقية الطائفية المناسبة. فقد بادر عدد من قادة الكتل، وأوّلها قائمة «الائتلاف العراقي الموحّد»، لمهاجمة ما اصطُلح على تسميته سريعاً «إرهاب حزب العمّال الكردستاني»، وطالبت بطرده من العراق وإغلاق مقارّه. وقد فعل المالكي الأمر ذاته بعد أن تلعثم حلفاؤه في قائمة «التحالف الكردستاني» قليلاً، وتخلّوا تدريجاً عن تصريحاتهم الطنّانة، بعدم تسليم ولو «قطّة كرديّة» للعسكر التركي. ووصم المالكي الحزب المذكور بالإرهاب وأمر بإغلاق مقارّه، ولكنه لم يعدم من يذكّره من حلفائه في «التحالف الكردستاني» بأن تلك المقارّ لا وجود لها أصلاً.
تتوالى مشاهد هذا السيرك المأساوي فصلاً بعد فصل دون رابط أو منطق أو حبكة، ولكنّها لا يمكن أن تقفز على أسئلة محيّرة من قبيل:
ما السرّ في إهمال وتجاهل الحكم التركي وكذا جاره الإيراني وغيرهما لواحدة من أحلك مظالم الأمم الشرقية، أي الأمّة الكردية، التي ينوف عديدها السكاني على ثلاثين مليون إنسان، والتي يصرّ الجميع على حرمانها من حقّها المشروع في تقرير مصيرها، أو في الحدّ الأدنى، في البحث عن أي حلّ سلمي لمأساتها، والإصرار على التصرّف وكأنّها غير موجودة على سطح الأرض؟
لماذا لا يُسأل الحاكمون في الدول التي تعيش فيها هذه الأمّة المقسّمة، والمحرومة في بعض الدول حتى من حقّ النطق بلغتها القومية، عن الأسباب الحقيقية وراء نشوء واستمرار ظاهرة «حزب العمّال الكردستاني» وحزب «بيجاك» في إيران. وهل يكفي تجاهل أو تناسي أية ظاهرة تاريخية كبرى لحلّها أو اعتبارها محلولة؟
ليس القوميّون المتشدّدون في تلك الدول هم وحدهم من يتجاهل حقّ الأمّة الكردية في تقرير المصير، الذي يتمتع به، ضمن مَن يتمتع، سكان تيمور الشرقية، ويطالب به سكّان الساقية الحمراء ووادي الذهب في الصحراء الغربية، وغيرهم من الشعوب الصغيرة التي نحترم حقّها ذاك. بل هناك أيضاً نوع غريب من الفطريات الوطنية والنيوليبرالية التي لا تقرّ لأمّة الأكراد بحقّ تقرير المصير، لسبب «شبه مقدّس» في أذهانهم، ومفاده أنّ الأكراد لم تقم لهم في الماضي دولة، ولهذا لا يجب أن تقوم لهم دولة في الحاضر. أو يضيف البعض متفطّناً، إنّهم أصبحوا جزءاً من شعوب الدول التي يعيشون فيها، وعليهم أن يندمجوا فيها شاءوا أم أبوا. ومع أن هذه التبريرات شديدة التهافت النظري والتاريخي، ولكنّها تعكس القاع الفكري الذي بلغته مجتمعاتنا في عصر الانحطاط الأميركي. فهل كان لقبيلة آل فلان الفلاني في الخليج دولة ذات يوم ليرتفع علمها الآن على سارية الأمم المتحدة؟ وهل يمكن تسمية سلسلة المذابح التي مرّ ويمرّ وسيمرّ بها الأكراد، تعايشاً واندماجاً، لتكون سبباً يمنع من المطالبة بحق تقرير المصير؟ وما ذنب الأكراد إذا كانت الدول التي يعيشون فيها ترى أنّ اندماجهم فيها لا يجب أن يتمّ إلا في المقابر «القومية» الجماعية؟
أما بخصوص مواقف الأحزاب والميليشيات الكردية العراقية، الغارقة حتى الأذقان في تحالفها العميق مع محتلّي بلادها، والتي أسهمت إسهامات كبرى في حصول الاحتلال وترسيخه، فليس جديداً البتّة عداؤها لقضية شعبها الكردي، وتحديداً للفئات المكافحة منه كحزب العمّال الكردستاني. لقد خاضت ميليشيات البرزاني والطالباني خلال السنوات الماضية، وحتى قبل احتلال العراق، معارك دامية ضدّ مقاتلي هذا الحزب، وبالغ البرزاني في تعاونه مع القوّات التركية الغازية، فقام بتسليم أحد الزعماء الكبار في الحزب هو «صكيك». واعترف مصدر رسمي في حزب البرزاني ذاته قبل أيام قليلة، بأن ميليشياته خسرت أكثر من ألف عنصر قتلوا في اشتباكات مع حزب العمّال. وليس من المستبعَد، بل من المرجّح جداً، أن يُقدموا على تسليم القادة الحاليين إلى القوّات التركية، مع إنها تحتجّ (كما قال الطالباني شخصياً) بأنّها تقيم في جبال قنديل الوعرة، التي من الصعب، إن لم يكن من المستحيل بلوغها والسيطرة عليها. ولنا أن نصدّق الرجل، فلو كانوا تحت قبضته في فنادق السليمانية، لما تأخّر لحظة في اعتقالهم وتسليمهم إلى أعدائهم.
من العبث التعويل على ما يُعلنه قادة الأحزاب والميليشيات الكردية العراقية من تصريحات عنترية، سرعان ما يخفّفونها أو يتراجعون عنها جملة وتفصيلاً. فالتجربة التاريخية أكّدت أنّهم في وادٍ ومصالح الأمّة الكردية المضطهدة في واد آخر، وأنّ مصالحهم الشخصية والحزبية والعشائرية تأتي في المقدّمة، وأنّهم خرجوا من صفحات النضال التحريري لشعبهم يوم وضعوا أيديهم في أيدي المحتلّين الأميركيّين.
ليس فيما سبق من ملاحظات أي تأييد لعنف أعمى أو إرهاب أو ما شابه ذلك، بل هي صيحة في وادٍ كثُر الصخب وجعجعة السلاح فيه، للتذكير بالحقيقة الكبرى المغيّبة، التي على أصدقاء الأمّة الكردية الحقيقيّين، وعلى محبّي التعايش بسلام بين أمم الشرق، وبخاصة التركية والإيرانية والعربية، الصدح بها: اعترفوا أيها الحكّام في دول الشرق بحقوق الأمة الكردية المشروعة، وادخلوا التاريخ الفعلي للسلام والحرية والعدالة. فلن يهدأ هذا الشرق المعذَّب البائس، وإحدى كبريات أممه مقسَّمة ومضطهدة ومحرومة من حقّها الشرعي غير القابل للطمس والتجاهل في تقرير المصير. ولا تعوّلوا أيّها القادة الأكراد على مساعدة لن تأتي قطّ من أعداء الشعوب المحتلّين الأميركيّين، بل عوّلوا على شعبكم وأصدقائه من العرب والأتراك والإيرانيّين المعادين للإمبريالية الأميركيّة، وهي عدوّة جميع الشعوب والأمم.
* كاتب وصحافي عراقي