إيلي نجم *
ما الذي يجمع مثلاً بين الحُكم الذي أوصى بتفريق نصر حامد أبو زيد عن زوجته ابتهال محمّد يونس عام 1995، بحجّة ارتداده عن الإسلام، وقيام جماعة من المسيحيّين في العام الميلاديّ 415 باغتيال هوباتيا Hupatia، الفيلسوفة والعالِمة الرياضيّة المولودة في الإسكندريّة، والقرارَين الجائرَين اللذين صدرا عن محاكم التفتيش في الكنيسة الكاثوليكيّة واللذين قضيا بالقتل حرقًا لكل من المفكّر الإيطالي جوردانو برونو Giordano Bruno (العام 1600 ميلاديّ) والفيلسوف الإيطاليّ لوتشيليو فانيني Lucilio Vanini (عام 1619) وأيضاً القرار الذي صدر عن جماعة المتديّنين اليهود، والذي قضى بطرد الفيلسوف الهولندي اليهودي الأصل باروخ دو سبينوزا Baruch de Spinoza من هذه الجماعة، وحرمانه حقّه في ممارسة الشعائر الدينيّة في الكنيس (العام الميلاديّ 1656)؟
يبدو أنّ العقل الديني الأصولي هو هو، أكانَ عقلاً دينيّاً يهوديّاً أم عقلاً لاهوتيّاً مسيحيّاً أم عقلاً كلاميّاً إسلاميّاً. ولعلّ أوّل من استخدمَ هذه المفردة Fundamentalism هم جماعة المعمدانيّين البروتستانت الذين كانوا قد نشطوا قبل الحرب العالميّة الأولى، في جنوب الولايات المتّحدة الأميركيّة، وأصدروا في عام 1909 كرّاساً يحمل العنوان الآتي: «الأصوليّون» (The Fundamentals). إنّ أهمّ ما جاء فيه أنّ النصّ التوراتيّ لا يقبل الغلط، وأنّ الذين حرّروه قاموا بتدوينه بإلهام من الله، وقد دوّنوا بطريقة آليّة ما أُمليَ عليهم. وعليه، فإنّ هذا النصّ لا يقبل التأويل التاريخي أو العلمي، ولا يُعتَدّ بالتالي إلاّ بما يحمله من معانٍ حرفيّة. وقد جرى الاستدلال بـ«سفر التكوين» مثلاً على المذهب الذي رأى أنّ الكائنات الحيّة ثابتة ولا تتطوّر (fixisme)، وهو الأمر الذي استتبع توصيةً بالامتناع عن إطلاع طلاّب المدارس على نظريّة التطوّر عند داروين. وقد شهدنا في الآونة الأخيرة، وفي الولايات المتّحدة بالذات، محاولات من هذا القبيل تُعارض المذهب التطوّري المستحدث (néo-darwinisme) وتقول بفكرة «القصد الذكي»... فماذا عن هذا العقل؟
لقد رأى العقل الأصولي أنّ الصيغ والتشكيلات (وهي في الحقيقة صيغ وتشكيلات تاريخيّة وثقافيّة عارضة ارتبطت بمكان وزمان معيّنين) التي مكّنته من الوقوف على أصول الدين وأركانه قد تطابقت مع هذه الأركان وتلك الأصول، بحيث استنفدتها وحلّت محلّها بعد أن اقتصرت هذه الأركان وتلك الأصول، برأي هذا العقل، عليها. وبالتالي، فإنّ الدين اليهودي أو المسيحي أو الإسلامي، كما تبدّى لهذا العقل، فيه كلّ شيء، بمعنى أنّ ما جاءت به العقول الأخرى وكلّ ما حقّقه الآخرون وما سيحقّقونه قائم في الدين ومتضَمَّن في عقيدته وشريعته وأحكامه. ومعنى ذلك أيضاً، أنّ حقيقة الأشياء قائمة وسابقة على العقل، وأنّ البشر لا يصنعون هذه الحقيقة، وأنّ بوسعهم أن يبحثوا عنها ويعثروا عليها في الدين وحسب. وبالتالي، فالدين هو مقياسها ومرجعها ومعيارها.
وإلى حقيقة تَساوي الأصوليّة اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة جوهراً، يُضاف صراع مرير في كلّ واحدٍ من هذه الأديان الإبراهيميّة الثلاثة، بين العقل الثيولوجيّ (أرسطو) الذي استحال أو قد يستحيل عقلاً أصوليّاً، والعقل الأونطولوجي (أفلاطون) الذي استحال أو قد يستحيل عقلاً علميّاً، وهو الصراع الذي أفضى تاريخيّاً إلى ظهور العقل العلمي في المجتمعات المسيحيّة الغربيّة، في الوقت الذي لا يزال فيه أرسطو يعاند أفلاطون، إذا صحّ التعبير، ويتصدّى له في المجتمعات اليهوديّة والإسلاميّة.
ولعلّ اتّهام الغرب المسيحي للإسلام بالتعصّب والتخلّف والقصور يعود إلى رفض الغرب عينه لمسيحيّة غابرة يذكّره بها إسلام اليوم، علماً بأنّ العقل المسيحي الأصولي المشرقي ما زال شغّالاً، ولم ينحسر كما انحسر صنوه (أي العقل المسيحي الأصولي الغربي) أمام صعود العقل العلمي. كما نلاحظ أنّ ابن رشد شبه مغيّب في العالم الإسلامي، في حين أنّه قد حظي باهتمام كبير في الغرب. وثمّة مَن يراهن أخيراً، في الشرق والغرب على السواء، على مسلمي الغرب لحسم الصراع لمصلحة العقل العلمي. إلّا أنّه ينبغي ألاّ يغرب عن بالنا أنّ هذه الخلفيّة الوجوديّة (أي الأونطولوجيّة) والمعرفيّة (أي الإبيستيمولوجيّة) التي يقوم عليها العقل الديني الأصولي، هي عينها التي يقوم عليها العقل الحداثي الغربي. (راجع كتاب يورغن هابرماس: التقنية والعلم من حيث كانا إيديولوجيا Technik und Wissenschaft als Ideologie). والسؤال: ألا يستوي هؤلاء الأُصوليّون الدينيّون وبعض الغربيّين الذين يراهنون على قدرة التقنية والعلم على تطويع الطبيعة وبقية البشر، لخدمة الغرب، أو بالأحرى لخدمة بعض الدوائر الغربيّة، أو أيضاً لخدمة الأوساط الماليّة العالميّة؟
الواقع أنّ العقل الغربيّ رأى، على الأقلّ في مراحل تكوّنه الأولى (العلمويّة والوضعيّة) واللاحقة (الوضعيّة المنطقيّة)، أنّ العقل فيه كلّ شيء، وبالتالي فهو يكوّن المخزون الشامل للحقيقة، وهو مقياسها ومرجعها ومعيارها. والحال أنّ الوثوق الكامل والأعمى بالعقل يوقعنا من جديد في حبائل اللاعقل وكمائنه، ويعيدنا إلى ما عبناه ونعيبه على العقل الديني الأصولي، الذي ندّعي أنّنا قطعنا معه وانقطعنا عنه، وهو الوثوق عينه الذي يودي بنا حين يؤدّي بنا إلى نوع من اللاعقلانية المقنّعة. فالانحياز إلى العقل لا يمكن تعليله عقليّاً، تماماً كما الانحياز إلى اللاعقل. فضلاً عن أنّ العقل الديني الأصولي اندرج ويندرج في خانة الميتافيزيقا، وقد نشأ على أنقاضه في الغرب عقل تنويري حداثي، وقد يكون هذا الأمر ضرباً من الوهم. ذلك لأنّ الثاني ساكَن بالأحرى الأوّل وتبنّى طرائقه ونحا مناحيه. فـ«التقديس» الذي قام بتسييج العقل الديني الأصولي، قابله «تأليه» العقل في فلسفة التنوير، و«تبجيله» في الدعوات العلمويّة والوضعيّة المنطقيّة. وقد رافق هذا الأمر إدراج الإسلام مثلاً، وحشره في خانة اللاتسامح والتعصّب والإرهاب. وإذا كان العقل الديني الأصولي رأى ويرى أنّ الحقيقة هي وقف على الألوهة، ولا يحقّ للبشر أن يتطاولوا عليها، فإنّ العقل الحداثي الغربي رأى ويرى أيضاًَ أنّ الحقيقة قصرت على العقل، ولا يحقّ للّاعقل أن يقاربها.
فلندرك أوّلاً أنّ الإيديولوجيا تحاصرنا من كلّ جهة وصوب، وتوشك أن تأسرنا في كلّ لحظة. ولنعمل ثانياً على إعمال العقل الفلسفي النقدي فيها كيلا يؤول نقد الإيديولوجيا إلى تغليب تلك التي تناصبها العداء.
* كاتب لبناني