مصطفى بسيوني*
رغم أن أخبار الإضرابات أصبحت معتادة ويومية في مصر، إلا أن إضراب موظفي الضرائب العقارية ـــــ وهي الفئة من موظفي الدولة المسؤولة عن تحصيل الضرائب على العقارات من المموّلين وتوريدها لوزارة المال ـــــ يحظى بأهمية خاصة. ولا تقتصر هذه الأهمية على عدد المضربين الضخم الذي يصل إلى 55 ألف موظف، ولا على انتشارهم على مستوى الجمهورية وكل محافظاتها، ولا حتى بسبب الطريقة التي أعلنوا بها احتجاجهم، بشكل رمزي أولاً في تظاهرة ضمت عدة آلاف منهم في شهر أيلول/ سبتمبر الماضي في محافظة الجيزة، ثم بإضراب عام بعد عيد الفطر، صاحبه اعتصام لحوالى أربعة آلاف منهم أمام وزارة المال، انتقلوا بعدها إلى مقر رئاسة الوزراء، رغم التهديدات والضغوط التي تعرضوا لها خلال المسيرة وتخلي التنظيم النقابي الرسمي عنهم وصمودهم في الاحتجاج رغم ذلك...
كل هذه ليست أهم ما في الإضراب. فإضراب موظّفي الضرائب العقارية يمثّل مؤشّراً قوياً على دخول رافد جديد وهام جداً إلى الحركة الاجتماعية في مصر، هو موظفو الدولة ـــــ أو العاملون في الحكومة. فحسب تقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية الصادر عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية لعام 2002، فإن عدد العاملين في الحكومة يبلغ 5.1 ملايين موظف. وفى بيانات أحدث للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بمصر، يقترب العدد من ستة ملايين موظف. المصادر نفسها تشير إلى أن إجمالي قوة العمل في مصر هي ما بين 22 إلى 23 مليون شخص. ويعني هذا أنّ العاملين بالحكومة في مصر يمثّلون أكثر من ربع قوة العمل، وهي نسبه ضخمة جداً تجعل الدولة في مصر أكبر صاحب عمل على الإطلاق. هذا القطاع الواسع اتّسم عادة بالاستقرار والهدوء، ولم تكن قطاعات العاملين بالدولة تشهد حركات احتجاجية ذات شأن إلا على سبيل الاستثناء، مثل إضراب العاملين في هيئة النقل العام سنة 1976 وإضراب سائقي السكة الحديد في 1986 وبعض الاحتجاجات الجزئية المتباعدة وغير المؤثرة. إن ضمان استقرار وهدوء ربع قوة العمل واستبعادهم من أي قلاقل أو اضطرابات محتملة يعدّ عاملاً هاماً جداً من عوامل استقرار النظام نفسه. وهذا الاستقرار لم يكن ناتجاً في أي وقت عن جودة أوضاع وظروف موظفي الدولة، فبيانات الدولة نفسها تؤكد عكس ذلك، إذ يشير تقرير الاتجاهات الاقتصادية الصادر عن الأهرام عام 2007، إلى أن الأجر الشامل لمتخرّج الجامعة لدى عمله في الحكومة لا يتجاوز 170 جنيهاً شهرياً أي حوالى 36 دولاراً، هذا الأجر أقل من كلفة إيجار مسكن متواضع بأسعار الإيجار المعمول بها في مصر.
الموازنة العامة للدولة تؤكد تدنّي أوضاع الموظفين. فيشير البيان الإحصائي عن مشروع الموازنة للسنة المالية 2007ـ 2008 إلى أن إجمالي بند الأجور يبلغ 59 ملياراً و574 مليون جنيه، ويعني هذا أنّ متوسّط أجر الموظف حوالى عشرة آلاف جنيه سنوياً، أي أكثر من 800 جنيه شهرياً. ورغم تواضع هذه القيمة فإنّها أيضاً غير حقيقية، إذ تتسم الأجور بالتفاوت الشديد، وهو القاعدة التي تبدو أوضح من قراءة البيان المالي عن مشروع الموازنة. فالأجور الأساسية تمثل 24.5% والباقي أجور متغيرة في صورة مكافآت وبدلات ومزايا، والقاعدة هي أن تلك البنود المتغيرة تذهب لمن يرضى رؤساؤهم عنهم.
هذه البيانات تعني أن متوسّط الأجر الأساسي أي المضمون للموظف لا يتجاوز 200 جنيه. وحتى إذا أهملنا التفاوت، فسيظلّ هذا المتوسّط ضئيلاً جدّاً بالنسبة لمعدّلات التضخّم في مصر. ولا يمكن تفسير هدوء الموظّفين السابق إلا بانتشار الحلول الفردية والتي تشكل دخلاً موازياً للموظف. وهي كانت تتمثّل في تقاضي «إكراميّات» والعمل بعد ساعات الدوام الرسمي، سواء كان بما يتصل بنفس العمل الأصلي مثل الدروس الخصوصية وفصول التقوية بالنسبة للمدرسين، أو في مهن أخرى، كذلك الإجازات بدون أجر من الوظيفة للسفر إلى دول الخليج والعمل بها مؤقتاً.
ما يشهده قطاع موظفي الدولة هذه الفترة يؤكد أن الأوضاع لم تعد كما هي. ولا نستنتج ذلك من إضراب موظفي الضرائب العقارية وحده، لأننا لو ألقينا نظرة سريعة على تحركات الموظفين، فسنجد أن قطاعات أخرى سبقت موظفي الضرائب، منهم مثلاً الموظفون الذين تحركوا للمطالبة بالكادر الخاص وهي زيادة للراتب الأساسي تتناسب مع طبيعة العمل. وكذلك إضراب العاملين بهيئة النقل العام عن العمل في شهر أيار/ مايو الماضي للمطالبة بتحسين أوضاعهم وكذلك العاملين في الهيئة العامة للسكك الحديد في مصر، واعتصام العاملين في البريد في شهر تموز/ يوليو الماضي واعتصام موظفي هيئة الطاقة الذرية في نيسان/ أبريل، بالإضافة إلى عشرات الاحتجاجات للأطباء والممرضات وسائقي المحافظات وموظفي وزارة التربية والتعليم وموظفي القوى العاملة والعاملين بالحكم المحلي لا يتسع المجال لسردها. صعود الاحتجاجات في قطاع موظفي الدولة لا يمكن فصله عن متغيرين واضحين جداً، الأول هو تراجع الحلول الفردية التي كان يلجأ إليها أغلب الموظفين، ففرصة العمل الموازية أصبحت مع تزايد معدلات البطالة التي تقدرها بيانات رسمية بمليونَي عاطل، وتقدرها بيانات غير رسمية بأكثر من خمسة ملايين، تجعل الحصول على فرصة عمل واحدة صعبة والحصول على فرصتين مستحيلاً، كذلك الحصول على مورد أضافي عبر «الإكراميات» والدخل غير الرسمي أصبحت فرصته أقل مع معدلات انخفاض مستويات المعيشة. ولا شك أن تصاعد الحركة العمالية بشكل خاص قدم المحفز لحركة الموظفين، فالتتالي السريع للإضرابات التي استطاعت في أغلب الأوقات الحصول على مكاسب، قدم نموذجاً ومرشداً للموظفين للطريقة التي يمكنهم بها تحسين أوضاعهم.
أوصل الـ55 ألف موظف مضرب في كل المحافظات رسالة مفادها أن ستة ملايين موظف لم يعودوا بعيدين عما يحدث في المجتمع. وهذا رافد جديد في حركة الغضب العامة التي تجتاح مصر، ولكنه رافد خاص جداً لأن هذا القطاع مسؤول عن إدارة كل مصالح وهيئات مؤسسات الدولة، إنه الدماء التي تجري في شرايين الحكومة، والتي إذا ما توقفت فلن يبقى منها سوى جثة هامدة.
* صحافي مصري