على هامش المؤتمر الإعلامي الذي نظّمته «الأخبار»، بالتعاون مع «لو موند ديبلوماتيك» وصحيفة «أنفورماسيون» الدنماركيّة، يومي الاثنين والثلاثاء الماضيين، تحت عنوان: «الإعلام في مهبّ الصراعات: الموضوعيّة على المحكّ»، وبعد مرور أكثر من عام على صدور العدد الأوّل من «الأخبار»، طلبنا إلى مجموعة من الصحافيين رأياً نقدياً في تجربتها الناشئة. ننشر اليوم مساهمة الشاعر والناقد عباس بيضون:


عبّاس بيضون

صحافة الموقف والنضال بدعة

أسّس جوزف سماحة «الأخبار»، وهو أهم صحافي لبناني، وربما عربي في جيله. كان جوزف يريد نفسه صحافياً أولاً وأخيراً، ولا شك أنه معلّم في هذا المجال، و«الأخبار» في جانب منها فكرته عن الصحافة. لقد حملت فكرة جديدة وراهنة عن فن الصحافة. بوسع القارئ أن يرى بين يديه صحيفة يتجوّل فيها بحرية وبلا عوائق ولا يتوه في مسالكها أو يشعر أنّ فيها مرافق ليست لأحد. لن يجد فيها تراكماً أو طفحاً أو مساحات مغلقة أو ميتة. «الأخبار» من هذه الناحية بنت يومها وبنت الخبرة والفن الصحافي. تستحق ثناءً لا تزال أهلاًً له من هذه الناحية. إنها موجودة لتُقرأ وموجودة ليصل القارئ إلى كل ركن فيها، وموجودة لتبهج النظر وموجودة ليألفها القارئ. ذلك لا يتّصل بالإخراج والتبويب فحسب، لكنه يتّصل، على نحو متفاوت، باللغة أو العرض. لا نبالغ إذا قلنا إنّ فيها جدّة وشباباً.
لكنّ الجريدة ليست فنّاً فحسب، إنها خدمة والأرجح أن الفن والخدمة لا ينفصلان عن بعضهما، وإذا انفصلا ظهر الاختلال وبدا كل منهما قليل الجدوى. فن الصحافة موجود ليواكب وظيفة الصحافة، ووظيفة الصحافة، في أبسط تقدير، النبش عن الوقائع وقولها كما هي أو كما تقول نفسها. الوقائع من حيث المبدأ ليست في رصيد أحد ولا في خدمة أحد. قد يقال، في هذا الباب، إن الحياد غير مستطاع والوقائع ليست مستقلة إذ تتكوّن في مخاض عملية لا يمكن حصرها وتوجيهها. هذا صحيح، لكن إلى حد. الموضوعية مطلب لا يتوافر ولا يمكن فرزها من جواذب تتعداها. مع ذلك، فإن ثمّة كلاماً يمثل لهذه الموضوعية وكلاماً لا يمثل لها. هناك صحافة هي أولاً هذه الوقائع قبل أي شيء آخر، وهناك «صحافة» تقوّل هذه الوقائع ما تريدها أن تعنيه وتشير إليه.
صحافة الموقف والنضال بدعة، إذا وضعنا في اعتبارنا المهنة والوظيفة. فن الصحافة عندئذٍ في خدمة شيء آخر. الوقائع لا تأتي أولاً. إنها ترد كما لو كانت مندوبة لتؤكد صحة سياسة ما، أو لتبرهن بانتظام على سلامتها. ولتبرهن على خطل السياسة المعاكسة وتحرّض ضدها. هناك ما يسبق الوقائع ويجبرها على الانتظام في خدمته. ثمّة ما يتعدى الواقعة هو استثمارها وتأويلها وهي تأتي مستثمرة مؤوّلة.
صحافة كهذه هي والصحافة الحزبية والصحافة الرسمية شيء واحد. إنها موجودة لتعبّئ وتعلّم وتزيّن. لقد بدأت «الأخبار» لذلك من تناقض بين فن الصحافة ووظيفة الصحافة. وهذا بحد ذاته لا ينتظم. فنّ راهن وجديد لوظيفة قديمة مستهلكة. يمكن الصحافة أن تكون في اليسار واليمين وأي جهة، لكن هذا ليس من دون حدود وليس من دون قواعد بل وآداب. يمكنها أن تكون لليسار واليمين، لكن ليس لصق سياسة حزب بعينه تتبعها في الصغير والكبير وتحتال لبسطها بأي وسيلة، وليس أن تكون ناطقاً بلسان طرف ما، بل ومهلّلاً ومنشداً وصارخاً باسمه في كل تفصيل. يمكن أن تكون صحيفة لاتجاه، لكن تبقى للوقائع حرمة ولا تستبدل بتقويلها وتأويلها والظن بها. صحيفة كهذه تفرز الوقائع من التأويل والظن وتتدخل إذا تدخلت بحساب، ولكن ليس تحت دخان الأقاويل المنسوبة إلى وقائع، بل على نحو معلن وسافر. تؤيد «اللوموند» ميتران عشية الانتخابات على سبيل المثال. هناك تدخّل ضمني في الترتيب والتقديم والتأخير وطريقة العرض ومساحة العرض، لكن الكلمة تبقى مع ذلك للواقعة.
صحافة الموقف بدعة بالقياس إلى المهنة. إنها ناطق نضالي أو حزبي أكثر منها صحافة. وليس للوقائع عندها أي أولوية أو حرمة. دخلت «الأخبار» إلى الصحافة من باب النضال. مانشيتها دعوة وتحليلها دعوة ورواياتها لا تخلو من دعوة. إنها لصق سياسة طرف ما، لا تخالفه أو تناقضه، بل تأخذ على عاتقها شرح مواقفه لمَن عسر عليه فهمها، والاحتجاج لها لمَن يريد حجّة، والجمع عليها، وتسليح الأنصار والمحازبين بفن جدالي. ولنا أن نتساءل عن الفرق بينها وبين أي صحيفة حزبية، سوى هذا الفن الذي قلّما تهتم به النشرات الحزبية، وسوى ذلك المظهر المهني المفرط أحياناً. ولنا أن نتساءل عندئذٍ عن جدوى الوقائع إذا كان لها مرجع وتفسير سابقان بل وينتظرها حكم مسبق.
تؤيد «الأخبار» سياسة ما من دون حرج، ومن دون أي فرق. تحرج سياسة حزب عند كل منعطف محازبيه، لكن «الأخبار»، كما لاحظت، تنعطف معه من دون تردد. ولا أعرف إذا كان يحرجها أن يقال فيها ذلك وإذا كانت تتمسك فعلاً بسمعة مستقلة. إن لها بالطبع مظهر صحيفة لا نشرة. سيخدمها هذا المظهر بل وذلك الفن الذي تجيده في أن تبدو أكثر من لسان حزبي. لكن هذا ملبس بحد ذاته. فالجريدة تريد لنفسها أن تكون ذات سمعة مهنية، لكن الجمهور الواحد يريد المزيد من التورط، ولا تهمّه الحدود المهنية بحال. إنه في حرب غير معلنة ولا يريد سوى النفير. ما توهّمته الجريدة من مصاقبة بين الفن والنضال تظهر صعوبته. ولا بد من أن ذلك سيخيفها. إن الفن الذي تعبت من أجله والمهنة التي أرادتها ليسا شيئاً في الحساب وسيُنتهكا عند مطلع كل يوم.
سيكون الفن والمهنة مع الوقت زينتين فحسب. أما المسألة ففي مكان آخر.
حرب غير معلنة ولا تحتاج إلّا إلى أسلحة. في النهاية هناك الأمر أو الإرشاد اليومي. هناك السجال الذي هو مزيج من نقد السلاح وسلاح النقد، والذي هو محاكاة للقتال أو قتال بالأصوات. إنها خنادق واستنفارات ومن العبث أن ننتظر من ذلك أكثر من خطاب أُحادي. من العبث أن نتوقع استفهاماً أو نقداً أو تحدياً أو مواجهة للفكرة بضدها. فليس هنا سوى المسيرة في اتجاه واحد. تفسير أوحد وفكرة واحدة وعلى الصحيفة أن تؤلّب في سبيلهما. قامت «الأخبار» لا صحيفةَ موقف فحسب، ولكن أيضاً صحيفة حرب. إنها جزء من معركة بالألفاظ لكن بخطة قتالية. في حال كهذه لا يعود الفن مهمّاً، إذ لا يسهّل شيئاً لقارئ غير معني بالرأي ولا بالعرض، بل هو معني أولاً بأن يرى صورته منعكسة في الصحيفة، ويسمع صوته مضخّماً منها.
يمكننا في هذه الحال أن نتحدث عن سلسلتين متوازيتين هما سلسلة الوقائع الظاهرة وما وراء الوقائع الباطن. الوقائع وتقويل الوقائع. سلسلتان متوازيتان يُخلط بينهما ويقدمان في صحافة الموقف على أنهما الشيء نفسه، لكن الموازنة بين السلسلتين لا تلبث أن تنتهي بسرعة لمصلحة السلسلة الثانية. يجري تعليق الوقائع وتقديم «ما وراءها» المفترض وتقويلها وروايتها الخاصة. لا تُقال الوقائع إلّا على أنها محفوفة بشبهات ونيّات وخبايا و«حقائق» ومضمرات ليست كظاهرها وربما كانت عكس الظاهر. بسرعة، وبعقل مؤامرة مثابر، تحلّ الخبايا والنيات والمضمرات المفترضة والمزعومة محل الوقائع وتقال على أنها هي. يقال للقارئ إن الوقائع غيرها وعلى غير ظاهرها، وإن الحقيقة هي في باطن وعمق لا يتجلّيان إلّا للعارف. هكذا نصل إلى إعلام ضد الوقائع ومادته الأساسية الرجم والتخمين، مادته الخبايا والنيّات المفترضة أو الحقيقية أو المشتهاة غالباً. يظل الأمر إلى وقت في حال من منطق مقلوب حتى يأتي حين يفلت فيه من كل منطق وتسيل «الحقائق» على قدر التمني والاشتهاء والمخيّلة والفن الدعائي. يأتي وقت فتحل الشائعة، نعم الشائعة، محل الواقعة. وتندمجان فلا يمكن فرز الواحدة عن الأخرى. يحصل أن «مسكوتاً» عنه مفترضاً أو مختلقاً يحل محل الظاهر، فنصل إلى إعلام كلّه من الظن والمخيّلة، إعلام كلّه فن وابتكار، إعلام لا ينفصل عن النميمة، بل يمكن اعتباره نوعاً من النميمة المنظّمة. إذا شئتم مثلاً، أعطيكم حرب البارد، فهنا نجد خبراً متكاملاً موازياً للظاهر قائماً على التقويل والظن والخبايا.
يمكنني أن أمتدح مواضع في الجريدة، الصفحات الثقافية مثلاً، فهي شبابية وراهنة وسائغة، بعض التحليلات التي تحترم «الظاهر» قبل أن تضيف إليه. لكن تستفزّني لغة حكم قاتمة لا محلّ فيها للوصف والمناظرة. لقد ولدت «الأخبار» في الحرب، حرب تموز والحرب الداخلية غير المعلنة، لكني أخشى أن يغلبها هذا على أمرها، فالحروب مثيرة، لكن من النادر أن تمنح أحداً تاريخاً حقيقياً.