على هامش المؤتمر الإعلامي الذي نظّمته «الأخبار»، بالتعاون مع «لو موند ديبلوماتيك» وصحيفة «أنفورماسيون» الدنماركيّة، يومي الاثنين والثلاثاء الماضيين، تحت عنوان: «الإعلام في مهبّ الصراعات: الموضوعيّة على المحكّ»، وبعد مرور أكثر من عام على صدور العدد الأوّل من «الأخبار»، طلبنا إلى مجموعة من الصحافيين رأياً نقدياً في تجربتها الناشئة. ننشر اليوم مساهمة الكاتب والصحافي حازم صاغية:


حازم صاغيّة

مبروك... وكلام كثير آخر

يصعب، عن مزيج الخصومة السياسيّة والودّ الشخصيّ، أن يصدر قول ومعنى. فالقائل، والحال هذه، يراوح مكانه، خطوةً إلى أمام وخطوةً إلى وراء، يكاد لا يتفوّه بـ«من جهة» حتى يستدرك فيُردف «من جهة أخرى». وتعثّرٌ كمثل هذا يُبقي صاحبه إلى اللعثمة، إن لم يكن التأتأة، أقرب.
لذا، لا بدّ من فصل وتبويب تنفكّ بهما عقدة اللسان.
ففي خانة الودّ الشخصيّ، مبروكٌ وتهانينا. فكيف أننا، قبل أشهر خلتْ، عزّينا وعُزّينا معاً بحبيب غادركم كي يعود قريباً إليكم، فلفظ أنفاسه بين يديّ؟ وهو ما ينشئ شراكة حزن وخسارة بيننا، نحن الذين شهد مطار بيروت، لحظةَ استقبالنا النعش، اختلاط دموعنا الساخنة. لكنْ لمّا كانت الشراكة تقوم على الربح والسعي إليه، بتنا مدعوّين إلى التحديق في الخانة الأخرى، في السياسة وما تنطوي عليه من تبايُن وتضارُب.
فأنتم كأنّ ظهوركم مُسندة إلى دعوة لم تملّ الحركات التوتاليتاريّة تكرارها: ابدأوا البكاء، فبعد قليل تصلكم الأخبار السيّئة. ويتراءى لي أن جريدتكم لو اختارت أن تفعل ما يفعله بعض الصحف من يانصيب وقرعة وهدايا، لتدرّجتْ هداياها بين سيّارة إسعاف ذات صفير قويّ للفائز الأوّل وسكّين مطبخ للفائز الأخير. فهي ضاجّة، صاخبة، تذكّرني بقصّة منفيّ ليبيّ كان كلّما اشتاق إلى بلده، ثبّت إبرة الراديو على محطّة طرابلس. غير أن الراديو، كما قال حزيناً، كان لا يلبث أن يسخن، بحيث يبرّده بشيء من المحطّة التونسيّة المجاورة.
ذاك أن التعبئة، في عرفكم، ينبغي لها ألّا تسترخي والناس، ما لم يكونوا جنوداً، فجنود احتياطيّون قد يُستدعون، في أيّة لحظة، الى الخنادق.
ومعروفةٌ هي أيضاً حجّة التوتاليتاريّين دفاعاً عن قرعهم المتواصل للطبول تصمّ آذان الحياة المدنيّة وتنخر روحها: أنتم بورجوازيّون، أو ضالّون، أو خونة، أو ـــــ بموجب قاموس الراديكاليّات الدينيّة ـــــ فاسدون مسكونون بالشيطان، وفي حالاتكم جميعاً، لا تكترثون بظلم مظلوم أو بحقّ صاحب حقّ. فالحجّة، بالتالي، ابنة نظرة تستقي تعريف ذاتها من عداوات تتّسع وتتناسل، فلا ترى إلى الكون إلّا مسرحاً للكراهية متّصلاً ولا إلى الزمن إلّا ألبوماً عن دمائها وأشلائها.
وفي ظنّي، وفي حدود ما أعرف، أن ما من ظلامة عولجت، وما من عدالة استُجيبت، إلّا في ظلّ صمت البنادق واسترخاء الأعصاب. وهي لا تُعالَج ولا تُستجاب مرّة واحدة، وقد يتخلّل التعاملَ معها انتكاس هنا وتراجع هناك. لكن المؤكّد، في المقابل، أن الأمثلة لا تُحصى عن حركات التعبئة والحضّ التي زعمت الانتصار لحقّ، أو لعدل، فأنشأتْ للخطأ والظلم صروحاً غير مسبوق إليها.
والراهن أن المشاكل إذ تُحلّ بضغط يقلّ عن العنف، فهذا شهادة على أن البشر مهما خسروا من بشريّتهم بقي قدْر منها. أما الظنّ بأنها لا تُحلّ إلّا بالعنف فخلفيّته شكٌّ عميق بتلك البشريّة وذئبيّةٌ لا مناص منها في نظر واحدنا إلى الآخر. ثمّ إن المنطق الأوّل يخلي مكاناً للارتباك والخطأ والتراجع، فيما الثاني عارف موقن نبويّ، يصنّف على نحو مبرم ويحدّد، بل يشتم من غير انقطاع، غافلاً عن أن أمورنا، بعد كلّ تلك الهزائم، تستدعي قدراً من الحيرة أكبر. أما «النقد الذاتيّ» حين يأتي، إذا أتى، فتكون المقبرة قد ابتلعت نصف الأرض!
لكنْ لمّا كان الكلام، هنا، عن جريدة ومهنة، جاز القول إن «الدعوة» الملحاح إلى العداوة، بل أيّة دعوة ملحاح، قد تصنع نشرة متقدّمة غير أنها لا تصنع جريدة. وأما «الداعي» فمناضل أكثر منه كاتباً أو صحافيّاً. ذاك أن المهنة، كلّ مهنة، لها أصولها، كما يقال، فيما النضال مهنة قائمة بذاتها. وهو مما لا تلتفّ عليه شطارة خلط المهنتين بـ«كولاج»، توفّره صورة جميلة وإشارة متجرّئة وإخراج جيّد، بحيث يكون رتق البكارة برهاننا الوحيد على التحرّر وسعة الصدر أو على إجادتنا استخدام التقنيّة.
وأنتم، في الصور والإخراج والإشارات النبيهة والكثيرة حقّاً في جريدتكم، وهو ما تمتازون به عن سائر جرائدنا، مثل من يعبر المحيط كي يصل إلى الصحراء، بدل أن يعبر الصحراء لبلوغ الماء. وصحراؤكم مصنوعة من عودات ثلاث إلى المواضي التي تكمن فيها البراهين، ومنها يأتي المدد. فهناك ماضي اليسار بفولكلوريّاته ورموزه، محذوفاً منه تتويجه المريع في سقوط الاتّحاد السوفياتيّ ودروسه، أو في اختيار الصين «البروليتاريّة» رأسماليّةً هي بالعبوديّة أشبه. وهنا، في الحالتين، نتحدّث عن مئات الملايين لا عن «كمشة» شافيزيّة وأخرى موراليسيّة غثّهما أكثر من سمينهما. وأما الماضي الثاني فماضي الإسلام (ولا بأس بشيء من هال العروبة في قهوته)، محذوفة منه ذروته الحاليّة في التربّص السنّي بالشيعة، والشيعيّ بالسنّة، وفي حركة السكاكين والسواطير التي تقيم حكم الله، عزّ وجلّ طبعاً، في العراق. هكذا لا يبقى لنا مما أورثنا الأسلاف الصالحون إلّا المذبحة تهدّدنا بالإطباق الشامل في ظلّ رايات خفّاقة.
وهي خلطة باتت مألوفة في شعبويّات «العالم الثالث» المتمادية، حيث يتمّ إجلاس كارل ماركس في حضن المهديّ عجّل الله فرجه، أو العكس. على أن الشورباء تلك لا تلبثون أن تكسروا فيها بيضة، هي ماضي المسيحيّة اللبنانيّة، وقد «مودَرَها» الجنرال عون.
وغنيّ عن القول إن جمع مواضٍ ثلاثة لا يصنع مستقبلاً بل، في أغلب الظنّ، يكثّر أدوات الشغب على المستقبل ويضاعف الحواجز في وجهه. فأنتم، وهو مما ينبغي أن يُقلقكم، خارج التيّار العريض للحياة الثقافيّة في بلدكم. وهو ما لا يُعوّض بـ«مثقّفين عرب» يهرفون في الشأن اللبنانيّ بما لا يعرفون، ويحبّون بيروت «قلعةً للمقاومة» فيكرّمونها بأن يختاروها، هي وحدها، للخراب «الجميل». ولا بأس بتذكيركم بأن الخروج من التيّار العريض للحياة الثقافيّة كان دائماً مقدّمة لمناهضة الثقافة ولبَرَم بهذه «الضلالة المتحذلقة» من طينة نبويّة مرّةً، شعبويّة مرّةً، متعالية آناً، مسفّلةً ذاتها «تواضعاً» آناً آخر.
وهي رائحة أشمّها في تجربة واحد من كتّابكم الشباب، كان في صحيفة «السفير» التي أتى منها واعداً ورصيناً فاختار لنفسه، في ربوعكم، وجهاً آخر يحاكي فيه «الشعب» ويستلهمه.
لكنّ ما ينبغي أن يُقلقكم أكثر أن الذين تشتمونهم هم الذين اغتيلوا وقد يُغتالون. وهذا معاذ الله أن يكون اتّهاماً، أو شكّاً، إلاّ أنه قرينة على اتّساع الرقعة التي تتقاطعون فيها مع القتلة. ولدى بعض قبائل البدو عادة ربّما كنتم ضحاياها، هي أن شيخ القبيلة يبني أفعاله على أقوال صغير القبيلة الطلق اللسان. والشيخ، كما لا بدّ تعرفون، يحنّي شاربيه، كلّ صباح، بالدم. فليضبط الصغير لسانه إذاً.
والحال، ونظراً إلى هذا التقاطُع غير المقصود، أن من يقرأ اسمه مهجوّاً، مرّة بعد مرّة في «الأخبار»، يحقّ له أن يتخفّى بتغيير في عاداته أو بعمليّة تجميل، أو تبشيع، وربّما غادر البلد نهائيّاً. فيُستحسَن، والأمر على ما هو عليه، ألّا تكونوا أخباراً عن موت قادم، وألّا تحقّقوا، في هذا المجال، «سبَقاً صحافيّاً» لم تخطّطوا له.
لقد فوّتتْ جريدتكم فرصة أن تكون صحيفة اشتراكيّة ديموقراطيّة تدخل إلى الحداثة من يسارها، بعيداً من الطوائف والمواضي والبنادق. وأوّل الحداثة أن يكون لنا وطن، ليس «مرقد عنزة» ولا «قطعة سما»، بل مجرّد مكان غير مُهدّد، عند كلّ منعطف، بالاندثار، يستطيع، بفعل تركيبه السكّانيّ المتعدّد، أن يستنير وينير في محيطه على نحو لا يسع بلداً آخر إنجازه. وهنا، أيّها الأصدقاء، فارق كبير بين القول إن لبنان جزء من المنطقة، وهو ما يمكن تخفيف سيئاته وتوسيع منافعه، وبين دفعه دفعاً لأن يكون جزءاً من أسوأ ما في المنطقة.
بيد أن هذا، كائناً ما كان الأمر، حقّكم. وأنا، وكثيرون مثلي ممن يخالفونكم الرأي، مستعدّون أن يدافعوا، ما وسعهم الدفاع، عن حقّكم ذاك. مع هذا، حاولوا أنتم أيضاً أن توفّروا للحقّ إيّاه مزيداً من المبرّرات، بألّا يلحظ قارئكم أن عمركم سنة واحدة.