هشام البستاني *
مرّت قبل أيّام، وبالتحديد في الخامس والعشرين من تشرين الأوّل، الذكرى الثالثة عشرة لتوقيع المعاهدة الأردنية الإسرائيلية (اتفاقية وادي عربة)، دون ضجيج يُذكَر. وأجد من المفيد الآن، وبعيداً عن الخطابية والوعظية التي قد تصاحب مثل هكذا مناسبة، تقديم قراءة مختصرة لسياق المعاهدة، وواقع وأهم نتائجها: التطبيع، ونقداً لجهود المجابهة على المستوى المحلّي.
تمثّل اتفاقية وادي عربة منحنىً هامّاً في التاريخ السياسي للأردن. فإضافة إلى كونها تشكّل اعترافاً رسمياً، وفوق الطاولة هذه المرّة، من قبل السلطة السياسية، بالتخلّي عن المشروع العربي التحرّري والانضمام إلى المشروع الإمبريالي ـــــ الصهيوني، فإنّها تبرز كعلامة فارقة لمرحلة تلتها شهدت تسارعاً مذهلاً في تطبيق برنامج «النيوليبراليّة الاقتصادية»، الذي أدّى إلى بيع مؤسّسات القطاع العام التي بُنيت من أموال الشعب، ومنها ما يدرّ ربحية هائلة (الاتصالات والاسمنت) أو يتحكّم بالثروات والموارد الطبيعية (البوتاس والفوسفات)، إضافة إلى «تحرير السوق» من أيّ قوانين أو ضوابط تقيّد رأس المال الخارجي. كل هذا أدّى إلى تفاقم الفقر وارتفاع كلفة المعيشة إلى مستويات فلكيّة.
كما شهدت مرحلة ما بعد المعاهدة هجوماً شرساً على المعارضة (أحزاب ونقابات وشخصيات)، وتقييداً هائلاً للحريّات العامّة، وخصوصاً بعدما شهدت هذه الأخيرة فترة نسبية من الازدهار بعدم عام 1989 إثر انتفاضة نيسان الشهيرة في جنوب الأردن. وهي الفترة التي ربما جاءت لتشكّل «استحقاقاً شعبياً» قدّمته السلطة السياسية كساتر دخاني لتوقيع المعاهدة، وبالتالي انكشفت مزاعمها ودعايتها حول اعتماد «الديموقراطية وحرية الرأي والتعبير والتجمّع» كنهج ثابت، إذ تبيّن أنّها مجرّد أدوات مرحلية للتعمية على ما سيليها من تراجع سياسي واقتصادي. هكذا، لا يمكن رؤية معاهدة وادي عربة خارج البرنامج الاقتصادي ـــــ السياسي العام للسلطة السياسية، كما لا يمكن تصوّر تحقيق برنامج تنموي وتحرّري إلّا في مواجهة ذلك البرنامج وأعمدته، التي تمثّل اتفاقية وادي عربة إحداها.
أمّا على صعيد المواجهة، وبعد ثلاث عشرة سنة من «التجربة» التي لم تقنع أحداً وأثبتت فشلها الذريع بنفس الدرجة التي أثبتت مدى تبعية السلطة السياسية للبرنامج الأميركي ـــــ الإسرائيلي في المنطقة، باتت المنظّمات الشعبية التي تبنّت مواجهة التطبيع كاستحقاق أساسي لنشوء أي مشروع وطني مستقبلي في وضع سيّئ ومتراجع بشكل كبير.
فبينما يستمرّ الشارع في رفضه العنيد والشامل لأيّة علاقات مع الصهاينة أو حتى الاعتراف بشرعية وجودهم وشرعية احتلالهم للأراضي العربية في فلسطين وغيرها، تجهد المؤسّسة الرسمية العربية، وفي مقدّمها الأنظمة التي وقّعت معاهدات مع العدو، في تقديم المداخل والتسهيلات للاختراقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ففي الأردن، تكثر برامج «بذور السلام» التي تحظى برعاية من أعلى المستويات وتهدف إلى ترويج «التعايش» وتجمع شابات وشبّاناً عرباً وصهاينة، تنشط في أوساط الطلبة، في حين وقّع الأردن من خلال المعهد الملكي للأفلام اتفاقية مع جامعة جنوب كاليفورنيا لإنشاء معهد للأفلام في العقبة يضع بين أهم أهدافه «ترويج التسامح والتعايش من خلال قبول طلبة من جميع دول المنطقة بما فيها الكيان الصهيوني». ورغم الاختراقات في السوق المحلّي لمنتجات إسرائيلية مثل سخّان الماء «آتمور» الذي تروّجه في الأردن شركة «نبيل زيت وشركاه»، إلّا أنّ هذه الاختراقات ما زالت قليلة رغم حجم المستوردات الكبير من «إسرائيل» والتي يذهب جلّها إلى المناطق الصناعية المؤهَّلة وهي مناطق حرّة تصدّر أساساً إلى الولايات المتحدة لا إلى السوق المحلّي، كما أنّ وكلاء البضائع «الإسرائيلية» ما زالوا يخجلون من الإعلان بوضوح عن منشأ بضاعتهم.
الوضع الجماهيري مطمئن بل ومشجّع، لكن المأسوي حقّاً هو جمود وعدم فاعلية المؤسّسات المعنية بمواجهة التطبيع، وأعني بها تحديداً اللجنة النقابية لمقاومة التطبيع (النقابات المهنية)، واللجنة التنفيذية العليا لحماية الوطن ومجابهة التطبيع (أحزاب المعارضة).
اللجنة النقابية حاولت بشدّة خلال العامين الماضيين أن تستعيد فعاليّتها السابقة، ولكنها تعاني من مشاكل كبرى تعيقها ـــــ بل تمنعها ـــــ من القيام بدورها، أبرزها أنّ مجلس النقباء (السلطة الأعلى في النقابات المهنية) قام بسحب غالبيّة صلاحيتها منها وردّها إليه فأفقدها القدرة على الحركة والعمل، إلى الدرجة التي يتطلّب فيها إصدار بيان ما، سلسلة بيروقراطية تنتهي بذهاب مناسبة البيان قبل أن يصل إلى أجندة اجتماع مجلس النقباء. وفوق كل هذا، أفرزت بعض الانتخابات النقابية الأخيرة نقباء «نيوليبراليّين» غير معنيّين بالملفّات السياسية والوطنية، وبتنا نشهد وللمرّة الأولى في تاريخ العمل النقابي، هجوماً علنيّاً من قيادات نقابية على نشطاء اللجان النقابية، وخصوصاً لجنة مقاومة التطبيع، بصفتهم أسباباً لتعكير صفو العلاقات بين النقابات والسلطة السياسية.
في ذكرى معاهدة وادي عربة، وأملاً في مواجهة حقيقية لها ولإفرازاتها ولجذرها الأوّل، من الضروري أن تتمّ الدعوة إلى تولّي دم جديد قيادة العمل، وأن يكون هناك حيوية أكبر وصلاحيات أوسع وآليات عمل عصرية في اللجان التي يفترض أن تكون الجبهة الأولى لمثل هكذا مواجهة، فتتحوّل بذلك ذكرى المعاهدة إلى يوم غضب شعبي حقيقي، بدلاً من أن تمرّ هكذا دون أن يلحظها أحد.
* كاتب وباحث من الأردن