فايز فارس
إنّ الندوة عن «الموضوعية على المحكّ» جعلتني أتذكّر محطّتين أساسيتين في مسيرتي المهنيّة دارساً وباحثاً وكاتباً منذ ما يقارب أربعين سنة من عمر مضى، حيث الحلاوة والمرارة تمتزجان، والنجاح والفشل يتعانقان. المحطّة الأولى عشتها مع د. ميشال عاصي، يوم كنت على مقاعد الدراسة في كلية الإعلام ـــــ الجامعة اللبنانية، حيث طلب منّي، وهو الأديب الماركسي الملتزم، أكثر من مرّة أن أطالع جريدة «النداء» الناطقة باسم الحزب الشيوعي اللبناني وجريدة «العمل» الناطقة باسم حزب الكتائب اللبنانية، وأن أعيد صياغة ما ورد فيهما من أخبار محليّة، مع علمه المسبق بأنّني لا أتّفق فكرياً مع هذين التيارين السياسيّين. هكذا نشأت وتدرّبت على احترام الرأي الآخر وفهم الأحداث عبر أية وسيلة إعلامية متوافرة، مكتوبة كانت أو مسموعة أو منظورة، ومن دون الخضوع لكلّ المؤثّرات، متجاهلاً كل الأفكار والأحكام المسبقة. هذا ما سهّل عليّ التعاطي والتعامل في ما بعد، خلال دراستي وعملي في فرنسا، مع كلّ التيارات الفكريّة السياسيّة الفرنسية المتنازعة على السلطة في بلاد العمّ فرنسيس ونسج شبكة من العلاقات الإنسانية الجيّدة على قاعدة ثابتة من الاحترام المتبادل، طوال عقدين من الزمن.
المحطّة الثانية عشتها مشاهداً لقناة فضائية معروفة، فرنسية المنشأ، أوروبية الأهداف، دولية الأبعاد، عندما تجاهلتْ كلياً، بشكل قاطع لم يشهد مثله قطاع الإعلام الحرّ في الغرب منذ الحرب العالمية الثانية، تلك التظاهرة الشعبية المليونية التي شارك فيها ودعمها أكثر من نصف الشعب اللبناني في الأوّل من كانون الأول من عام 2006، والتي تحوّلت إلى اعتصام شعبي ديموقراطي بهيّ دام أشهراً، ولكان أسقط في غضون أسبوع أعتى سلطة في أيّ بلد من بلدان هذا العالم الحرّ وغير الحرّإنّ الإعلامي هو قبل كلّ شيء إنسان يحتاج إلى مأكل وملبس ومسكن، أي إنّه يخضع ـــــ شئنا أو أبينا ـــــ إلى تلك المعايير والمقاييس التي تتحكّم في سوق العمل وتسيطر علىه، حيث الإعلامي يحتاج كغيره من الناس إلى أن يعمل ويأكل خبزه بعرق جبينه. لذا هو خاضع لشروط العمل في قطاع ذي مكوّنات معروفة ومقوّمات واضحة وشروط مهنيّة وأهداف مرسومة سلفاً. هو يتمتّع أحياناً بنسبة محدودة إن لم تكن محدّدة من الحريّة والاستقلالية. لكنّه يجد نفسه في غالب الأحيان مجبراً على التزام سياسات رسمها أصحاب الوسيلة أو المحطّة الذين أطلقوها من ضمن مشروع يبغي الربحين المادّي والمعنوي في آن معاً.
إنّ النجاح في مجال الإعلام عامّة يفترض بالعاملين في هذا الحقل أن يدركوا، قبل انخراطهم، ما ينتظرهم من التحدّيات التي عليهم تحمّل أعبائها أو مواجهتها، من الإحاطة بثقافة عامّة ترتكز على إتقانهم أكثر من لغة واطّلاع كاف على تاريخ الشعوب والأمم، وإلمامهم بالعديد من المعارف والعلوم والآداب والفنون وقدرة على التواصل مع كلّ الناس واحترام عميق للرأي الآخر، والتمتّع بالصبر الجميل، والتزام قضايا الإنسان وحاجاته إلى التطور والارتقاء. كلّ تلك الصفات والمواصفات تجعل من الإعلامي رائداً وقائداً في مجتمعه وبيئته وشريكاً أساسياً وفاعلاً في رسم السياسات وإنجاحها أو إفشالها، ما دفع بالحكومات منذ نصف قرن إلى إنشاء وزارات متخصّصة في هذا المجال، كما حفّز أهل المال والأعمال على الاستثمار في هذا القطاع وجني المكاسب والأرباح الهائلة.
لكن ماذا عن القارئ؟ هذا المواطن ـــــ الإنسان الذي تحوّل في عصرنا هذا إلى مجرد مستهلك لكلّ ما يُعرَض عليه من توجيهات وتوجّهات ويتعرّض له من إغراءات في زمن يجري فيه تغيير المفاهيم الإنسانية السائدة والقيم الاجتماعية المسلَّم بها منذ قرون، وبسرعة لا يبدو معها الإنسان المعاصر قادراً عملياً على تقبّلها ومواكبتها والسير في ركابها من دون ردّات فعل سلبية في غالب الأحيان. إنّ سرّ نجاح أيّة وسيلة إعلاميّة يكمن في القدرة على تأمين ذلك التناغم، أي الشراكة الحقيقية، بين أطراف المشروع الإعلامي الثلاثة... عنيت بهم المستثمر أو المموّل والكاتب والقارئ.
هنا تبرز أهمية الحديث عن الموضوعيّة في البحث عن الحقيقة وتقديمها وتقبّلها في آن معاً. هو بحث علمي أدبي متخصّص ومسؤول يهدف إلى نشر الوعي وتعميم المعرفة على كل المستويات: السياسيّة والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. هو بمثابة «عقد اجتماعي» تمّ الاتفاق عليه وتوقيعه من المموّل والكاتب والقارئ مع صدور العدد الأول، وهو مستمر ما دامت هذه الشراكة قائمة على تبادل الاحترام والثقة والوفاء بينهم.