عزمي بشارة
دعم غير مشرِّف لبوتو ولمشرَّف

منذ أن وصل مشرّف إلى سدة الحكم في باكستان بانقلاب عسكري على نواز شريف تلقّت حكومته 10 مليارات دولار من الدعم الأميركي، منها 7 مليارات لأغراض العسكرية. ويذكِّر هذا الدعم الأميركي بالدعم الذي تلقاه نظام ضياء الحق الذي انقلب على ذو الفقار علي بوتو، إذ احتلت باكستان في فترة حكم ذلك الدكتاتور المرتبة الثالثة بين متلقّي المعونات الأميركية بعد إسرائيل ومصر.
ورغم اعلان مشرف حالة الطوارئ يوم الخميس الماضي، وحديث بوش الهاتفي الليلي معه في الموضوع، وتهديد العديد من النواب في الكونغرس باتخاذ خطوات لوقف الدعم لباكستان، ورغم الحرج الأميركي بعد هذه الخطوة... تمضي على قدم وساق الإجراءات لتنفيذ الخطة العسكرية لهجوم مضاد مشترك أميركي ـــــ باكستاني في منطقة القبائل (واشنطن بوست 9 تشرين الثاني/ نوفمبر). يدرك مشرف أن أميركا تنتقد وتضغط لكن لا غنى لها عنه في إحكام القبضة على الجيش وفي التصدي للمعارضة الإسلامية وللتمرد على أنواعه في منطقة القبائل الملاصقة لأفغانستان.
لم يتمكن مشرف من شن حملة عسكرية حقيقية على طالبان وعلى الفصائل الإسلامية التي تتخذ منطقة القبائل ملجأً ومنطلقاً لها. وكانت أحداث المسجد الأحمر نقطة تحول اضطرته أن يقرر ويحسم الامر كما تريده اميركا أن يفعل.
ولكي يتمكن من قيادة باكستان الى مواجهة كهذه بالتحالف مع اميركا في ظل وجود معارضة باكستانية إسلامية واسعة، كان بإمكان مشرف أن يحسم في أحد اتجاهين: فرض حالة الطوارئ والأحكام العرفية على البلد ومنع المعارضة من التعبير عن ذاتها واحتجاجها، أو توسيع قاعدة النظام بإتاحة المجال لمعارضة أقل خطراً ترتاح لها أميركا مع علمها أنها غير قادرة على حكم البلد دون الجيش. لقد جرت محاولة للتوافق مع بوتو المقبولة على اميركا، وتوسيع قاعدة النظام في مواجهة الإسلاميين... لكن رد فعل الإسلاميين من جهة، وطموح بوتو السياسي غير المحدود وغير الملجوم، لا بالتفجيرات وقتل مؤيديها ولا بموقع الشريك في السلطة بوساطة أميركية من ناحية اخرى، جعلا مشرف يختار الخيار الأول وهو فرض الأحكام العرفية وحالة الطوارئ.
يجري الصراع الدموي الدائر حالياً بين معارضة بوتو وحزب الشعب وبين النظام الحاكم داخل الفلك الأميركي الى حد ما. وأميركا تدير أزمات. وهي في حالة إنكار للخيارات التي يطرحها مشرف حاليا: إما مكافحة الإرهاب وشنّ الحرب في منطقة القبائل أو تعددية سياسية غير منضبطة في الباكستان.
مرة أخرى مثلما في حالة تركيا وإقليم كردستان العراقي لدينا مثال عن صراع حقيقي يدور على تخوم الإمبراطورية لا ضدها، ويتصارع الخصوم إلى حد بعيد على نيل رضاها. وتجد اميركا صعوبة في السيطرة على حلفائها. ولا تحدد الاولويات الاستراتيجية الاميركية في الكونغرس حتى لو أفرط النواب في طرح قضايا حقوق الإنسان شروطاً لنيل المعونات.

مات ميتة وادعة

يوم 1 تشرين الاول/ نوفمبر الماضي توفي في منزله في مدينة كولمبوس في ولاية أوهايو الجنرال بول تيبيت عن عمر يناهز 92 عاماً. بول تيبيت هو الطيار القائد لفريق طائرة «اينولا جاي» (على اسم والدته) التي تلخصت مهمتها بإلقاء القنبلة النووية من الطائرة على مدينة هيروشيما اليابانية صباح يوم 6 آب 1945.
قتلت القنبلة 140 الف ياباني عند انفجارها، عدا آلاف المشوّهين ومن ولدوا مشوهين ومن توفوا بسبب التلوث الشعاعي في السنوات اللاحقة.
أبدت جريدة وول ستريت جورنال ( 9 تشرين الثاني/ نوفمبر) إعجابها بالجندي المتوفى. وادّعت الصحيفة أن الفعلة قابلة للنقد والنقاش أما الجندي فقد تصرف كما يليق بجندي أن يتصرف، إذ نفّذ أمر بلاده. ولم تكتف بإبداء الرأي الإيجابي بشخصه لأنه لم يُبد ندماً على المهمة التي قام بها ودافع عنها في الذكرى الستين لهيروشيما، بل ارتكبت فعلة تليق بصحف الرايخ الثالث إذ خفضت عدد القتلى في ذلك اليوم إلى 80 الف هكذا بجرة قلم، ولم تذكر شيئاً عن آثارها الأخرى.
والفن الصحافي أن يُظهر ذلك هذا اللعب بالأرقام اعترافاً بالاثم وموضوعية، إذ ذكر الرقم في سياق عرضها لـ«نقد مشروع» لعملية إلقاء القنبلة. أما النقد فيبدو كما يأتي «إن الإنسان قادر على صنع الشر لأخية الإنسان». لا سياسة دولة عظمى ولا اميركا ولا يابان ولا يحزنون. بقدرة قادر يختزل الشر لمستواه المجرد البشري الإنساني العام، حتى لترغب عزيزي القارئ في ضم من ألقى القنبلة والرئيس الذي اصدر الامر ومواساتهم لشدة إنسانيتهم وضعفهم واعترافهم بالشر الكامن في الطبيعة البشرية.
تركيز القضية في من ألقى القنبلة من الطائرة وفريقه امر غير جدي طبعاً، وإن كان هنالك ما يحاسبون عليه ليس فقط لأنهم نفّذوا أمراً مخالفاً للقانون الطبيعي والأخلاق والشرائع الإنسانية، بل أيضاً لأنهم تباهوا بذلك فيما بعد، أي بعد أن أدركوا النتائج.
لكن الأساس هو القرار بعد الانتصار الأميركي بإلقاء القنبلة في نهاية الحرب على مدينتين، وذلك عندما كانت أميركا تحتكر السلاح النووي. إن الدولة التي تطمح في أيامنا الى تحديد من يرى حيازته للطاقة النووية خطراً ومن لا يرى ذلك، هي الدولة الوحيدة التي ثبتت خطورة ملكيتها لها، فهي ببساطة استخدمتها. وهي الدولة التي تدّعي العقلانية العلمانية الليبرالية الديمقراطية. ولا شك في أن هنالك علاقة بين استخدامها الكارثي والمرعب للسلاح النووي وهذه الصورة التي لديها عن نفسها، اي لأنها تعتقد أن الخير والعقلانية يتجسدان فيها. وبمعنى ما فإن كل شيء متاح لها حلال عليها (ولحليفتها إسرائيل طبعاً).
ونحن نجازف بفرضية يصعب إثباتها، لكنها راجحة عقلياً: لو استمرت اميركا باحتكار السلاح النووي لاستخدمته مرات أخرى في القرن العشرين، ضد فييتنام وكوريا مثلًا. وإن ما ردعها عن تكرار الجريمة ليس النقد الذاتي على ما جرى في هيروشيما بل الردع الناجم عن امتلاك السلاح من آخرين (أشرار طبعاً).
1. استخدمت الولايات المتحدة السلاح النووي ضد مدينتين.
2. لم تفعل ذلك يأساً أو دفاعاً عن النفس، كما تتهم غيرها أنه قد يفعل، بل لتقصير مدة الحرب وتقليل عدد ضحاياها من الجنود.
3. لم تغب عن الاستخدام دوافع غير عقلانية الطابع مثل الثأر لبيرل هاربر، وهي ثأرية تقزم الثأرية الشرقية المشهر بها، كذلك لم تغب عن القرار عناصر مكيافيللية دموية مثل إيصال رسالة رادعة للنظام السوفياتي المنتصر الثاني في الحرب الثانية توضح تصويرياً ما تملكه أميركا.
4. استخدمت أميركا السلاح النووي عندما كانت تحتكر ملكيتهstrong>استراحة إعلانية

عندما تعذر على «الطرفين» الإسرائيلي والفلسطيني التوصل الى اتفاق حول اي شيء، أو التجرؤ على نص أي شيء مضمر متفق عليه، بعثت فجأة الحياة بخريطة الطريق وهي رميم. خريطة الطريق مألوفة ومجربة وغير مؤذية وتصلح للمماطلة والتسويف، وليس أفضل منها للحوارات واللجان والاجتماعات، وتصلح خبراً لكل نشرة عندما تغيب الأخبار، ويمكن طيها ووضعها بالجيب، ويمكن استخدامها محارم ورقية متعددة الأهداف.
هنأت إسرائيل السلطة على قبولها تنفيذ الالتزامات الأمنية تجاه إسرائيل المنصوص عليها في هذه الخريطة... وها نحن أمام خطة مراحل جديدة. وتخطّى مندوب السلطة الى الامم المتحدة كل التوقعات إذ طالب بخطوات دولية ضد حماس.
ويقول إيلي يشاي لا فُض فوه، إنه إذا تعذر التوصل الى اتفاق جوهري يمكن تحويل الاجتماع الى دول مانحة. وهذا كلام بنّاء فعلاً. فهكذا تستفيد إسرائيل ويستفيد الفلسطينيون. وصحيح أن القرش الأبيض لليوم الأسود، لكنه يصلح لكل يوم.
وعلى كل حال، حتى لو فشل المؤتمر فالقاسم المشترك اعظم من أن يعترف «الطرفان» بالفشل.

سيرتان: شفيق الحوت وأنيس الصايغ

خلال عام واحد صدر عن دار الريس كتابا سيرة ذاتية لرجلين عظيمين وأستاذين وصديقين عزيزين. وكم بودي أن أكتب عن كل منهما على حدة ما يستحقه من مراجعة لمرحلة تاريخية سردت كمعاناة السيرة الذاتية ومأساة المثقف العضوي المشارك في تغيير العالم عبر التورط في قضية مجتمعه، وهو يلخص التفاوت بين الرغبة والأمنية وإرادة التحرر والتحليل العقلاني من جهة، ومجرى الأحداث وصيرورة التاريخ على غير ما أرادها أن تكون من جهة أخرى. إلا أنها على الأقل أتاحت للمناضل والكاتب أن يلخص واقعاً حزيناً أو فرحاً، خائباً أو حالماً لا علاج له، وفي الحالتين دون أوهام.
لكني وجدت من المفيد أن ألفت نظر القارئ قبل أن أجد الوقت لمراجعة مطولة لهذا الوجه المشرق والمضيء لجيل النهضة القومية العربية والوطنية الفلسطينية. كتاب: «أنيس الصايغ عن أنيس الصايغ». وكتاب «من يافا بدأ المشوار» لشفيق الحوت.
أنيس الصايغ مؤرخ يكتب عن طفولته في طبريا وعن فايز ويوسف وتوفيق، وعن قصة علاقته المركّبة المرهفة مع أمه كأنه أديب. يكتب عن البيت والمكتبة ومحورية الثقافة في بيت القس وعن الترتيب الانكليزي. يشرح بدقة دون كلل كأنه ما زال يحاول أن يوضح لبيروقراطيين في جهاز المنظمة من أين تأتي أناقته وجديته ودقة مواعيده واهتمامه بالمستوى الأكاديمي للمادة التي يقوّمها في مركز الأبحاث، كأنها كانت بأعينهم تهم تحتاج الى تبرير. يروي أنيس الصايغ من قومي سوري الى قومي عربي قصة ربط محكم بين المواقف الوطنية والتمسك بالتقدم الحضاري، قصة جيل حاول من الجامعة الاميركية في بيروت وحتى كامبردج ان يبني مجتمعاً أرقى وأفضل دون التفريط بالعدالة والإنصاف.
لمن لا يعرفهما، شفيق الحوت وأنيس الصايغ شخصان مختلفان إلى أقصى درجة يمكن أن تتصور. شفيق الحوت ابن يافا، رجل الساحل السوري، ابن فلسطين وسليل لبنان، حاد حاضر البديهة منطلق جهوري واثق، كأنه ولد لكي يكون قائداً، كاريزما تمشي على رجلين. وأنيس الصايغ مثقف ورجل صلب لكنه خافت هادئ مؤدب إلى درجة الاعتذار.
لكنْ كلاهما يختلف بدرجة أكبر عمّن مثل الفهلوية السياسية والفساد والإفساد وبهدلة المؤسسات في القيادة الفلسطينية. الجمع بين التنور والبحث عن العدالة للشعب الفلسطيني، بين المناقبية والعقلانية، بين بناء المؤسسات والنضال يجمع شفيق وأنيس.
شفيق الحوت يكتب بمهنية وبأسلوب ممتع عن سيرته متحدة مع سيرة حركة التحرر الفلسطينية بعد النكبة. لكن الشخصية القوية الواثقة وروح الدعابة الدائمة تخفي رومانسية وطنية تجعله يرى الإيجابي في ياسر عرفات رغم خلافه معه واختلافه المتطرف عنه، ولا ينطق بكلمة عن سلبيات وإخفاقات جمال عبد الناصر. ورغم الرومانسية فإن التنور والعقلانية النقدية ورفض الإشاعة أو الاعتقاد السائد او الأفكار المسبقة تسري في قلمه. سيرته سيرة فلسطين الشتات وبناء الحركة الوطنية وسيرة لبنان أيضاً.
لسنا أمام سياسيين او رجال أعمال يكتبون مذكرات، بل نحن أمام كاتبين مهنيين، قراءتهما متعة ذهنية. وفيما عدا المتعة الذهنية التي توفرها القراءة فإن أمراً آخر يجعلنا نشكر الرجلين ومَن شجعهما على كتابة سيرة ذاتية، ويقيني انهما واعيان لما سأقول، وإلا لما وصف انيس بدقة المؤرخ سيرة والده ووالدته من سوريا ولبنان، وسيرته هو من فلسطين، ولما وصف شفيق وهو الوطني الفلسطيني سيرة عائلته من بيروت إلى يافا إلى بيروت. إنهما رمز جيل يجسد ليس بالحجة المبرمة ولا بالشعار الثوري، بل بالسيرة الشخصية والعقل والروح والنفس والخلق وحدة سوريا ولبنان وفلسطين وشرق الاردن، وبطْلان سايكس بيكو. وطنيان فلسطينيان لم يتخلّيا عن القومية العربية. ممثلا جيل يستطيع بسيرته الصادقة أن يفهم جيلًا وُلد في ظل الحدود أنه لا يجوز تصديق ما صنعه الاستعمار، فضلاً عن التعصب لما صنعه. كم يجسد الرجلان ما كان يمكن أن تكون بلادنا عليه.