هشام نفاع *
بعض الوثائق السريّة لا يأتي كشفها بجديدٍ مفاجئ. بل إنّه يؤكّد بالتفاصيل والمعطيات ما كان معروفاً بالتحليل أو الاستنتاج أو حتّى الحدْس. ينطبق هذا على وثائق اسرائيلية سُمح بكشفها أخيراً، يتبيّن منها مجدّداً أنّ مؤسّسة الحكم في إسرائيل لم تبتعد قطّ عن النهج الاستعماري المتمثّل بـ«فرّق تسُد» ـــــ طائفياً، في حالتنا.
ففي أواخر السبعينيّات، بُعيد انتهاء حياته السياسية، أدلى العسكري والسياسي يغال ألون بسلسلة مقابلات لمؤرّخ إسرائيلي شاب، ظلّت قيد السريّة ولم تسمح الرقابة العسكريةبالكشف عنها سوى بعد مرور قرابة ثلاثة عقود من الزمن. وهي تصل إجمالًا إلى نحو ألف صفحة، بعضها لا يزال ممنوعاً عن الجمهور.
من المهمّ التأكيد على أن الحلم المرضيّ الإسرائيلي بتغيير «وجه الشرق الأوسط»، لم يبدأ في عدوان 2006 الإجرامي والفاشل على لبنان. ولا تعود بداياته فقط إلى عدوان إسرائيل على لبنان وعلى المقاومة الفلسطينيّة عام 1982. يومها أيضاً، ظنّ مهووسو الحكم الإسرائيلي، وفي مقدّمتهم الجنرال أرييل شارون، أنّ بمقدورهم إعادة صوغ خريطة المنطقة بالدبابات. واللافت في جميع المحاولات أنّها أرادت دوماً الاعتماد على التكتيك الاستعماري القديم نفسه: تفتيت المشرق العربي طائفياً بغية
«تغييره»...
هكذا جرى عام 1982، حين أرادوا تصفية القضيّة الفلسطينيّة عبر تأجيج الاستقطاب الطائفي في لبنان وربط بعض زعماء الطوائف بنظامهم بصفتهم مقاولي حرب ثانويّين؛ والأمر نفسه كرّروه حين حاولوا قبل عام واحد ركوب موجة التقسيم الجديدة القائمة على اختلاق
«بعبع شيعي».
في عودة إلى الوثائق المذكورة، من المهم التعريف بصاحبها، يغال ألون. فقد كان إحدى الشخصيات المركزيّة في الحركة الصهيونيّة وفي المؤسّسة الاسرائيليّة الحاكمة لاحقاً. تولّى قيادة عصابة «هبلماح» (اختصار عبري لـ«كتائب السّحق») التي تحوّلت إلى مركّب أساسي في الجيش الإسرائيلي لاحقاً، وقاد، باعترافه، جرائم تهجير واسعة لقرى فلسطينية عام 1948. كان مرشّحاً لتولّي وزارة «الأمن»، وترأّس عدداً من الوزارات أبرزها حقيبة الخارجية. في المقابلات التي تضمّنتها الوثائق، يتحدّث عن كثير من القضايا، سيتمّ هنا التركيز على إحداها: «نظريته» لتغيير الشرق الأوسط.
من بين ما قاله ألون: «هناك أربع أقليات شغلت أفكاري طيلة الوقت، حتى قبل أن أصبح وزيراً للخارجية: الأكراد في العراق، الدروز في سوريا، المسيحيّون في لبنان» وأيضاً ـــــ فلننتبه جيداً ـــــ «القبائل الأفريقية في جنوب السودان»! فيتّضح أنه كانت لديه خطّة ضخمة «لمساعدة الدروز على إقامة دولة مستقلة تفصل بين سوريا ودولة اسرائيل». وهو يصف حالة الاستحواذ التي تملّكته بشأن هذه المؤامرة، بكلماته التالية: «لقد كان هذا بمثابة جنوني
الخاص».
ولم يختلف الأمر في تفكيره التآمري بشأن لبنان، حيث أراد إقامة دولة طائفية مسيحيّة. وقد قال: «كانت نصيحتي (للحكومة الإسرائيلية) أن نلقي على الموساد هذه المهمّة مباشرة». واقترح خطوات عمليّة منها «إرسال بعثة دائمة من المستشارين للشؤون التكتيكية، المدفعية والاتصالات والتفجيرات، لمساعدتهم على إقامة هيئة عمليات وتدريبهم».
خطط ألون هذه ليست نموذجاً بحدّ ذاتها بقدر ما تشكّل مثالاً صارخاً على فكر استعماري نموذجي حملته الحركة الصهيونية، ولا تزال تتمسّك به المؤسّسة الحاكمة في إسرائيل. فتبرير وجود إسرائيل «اليهودية» كان بحاجة دائماً إلى اختلاق نماذج دينية/ طائفية مشابهة، تكون أدنى سقفاً من النموذج الوطني والقومي. ومن هنا نفهم لماذا تدلّت ألسُن حكّام إسرائيل وتقطّر اللعاب منها، مع إطلاق خطّة التفتيت الأميركية الجديدة للشرق الأوسط تحت العنوان المناوِب «سنّة
ضدّ شيعة».
لتوضيح السياق الاستعماري الأوسع، من المفيد استعادة بعض أسماء «الدول» (الدويلات) التي أقامها الاستعمار الفرنسي في بلاد الشام، مثلما أورد ذلك المؤرّخ الفلسطيني الراحل إميل توما تحت عنوان «الطائفية أداة الامبريالية والرجعية»، في كتابه «الحركات الاجتماعية في الإسلام». فقد تولّى ما يُسمَّى المفوّض السامي الفرنسي مهمّة تأسيس الدويلة تلو الأخرى. وهكذا أعلن عن إقامة «دولة حلب»، ثم «دولة العلويّين»، ثم «دولة جبل الدروز»، وكل هذا وفقاً لسياسة التفتيت نفسها. وبالطبع، لم يُفشل هذه المحاولات/ المؤامرات سوى الحسّ والوعي الوطنيَّين والممارسة المقاوِمة بموجب بوصلتهما، مثلما جاء، على سبيل المثال، في البيان الأوّل لقائد الثورة السورية سلطان الأطرش، في 23 آب 1925:
«ايها العرب، تذكّروا أجدادكم وتاريخكم وشهداءكم وشرفكم القومي.. لقد نهب المستعمرون أموالنا واستأثروا بمنافع بلادنا وأقاموا الحواجز الضارة بين وطننا الواحد وقسّمونا إلى طوائف ودويلات وحالوا بيننا وبين حرية الدين والفكر والضمير وحرية السفر حتى في بلادنا وأقاليمنا».
للأسف، يبدو أنّ الدرس التاريخي من هذه الكلمات الواضحة عصيّ على عقول العرب الحائزين على لقب «معتدلين» من أكاديمية جورج بوش للهيمنة!
قد يكون التلخيص الأفضل لهذه الهموم هو ما جاء في كتاب المفكر اللبناني كريم مروة بعنوان «المقاومة». فقد كتب عن العلاقة بين الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982 وبين مؤامرات إمرار مخطّطات التفتيت الطائفي،
ما يأتي:
«إن الاجتياح الإسرائيلي، في الأساس، وكل أشكال العدوان السابقة على الاجتياح التي مارستها اسرائيل ضدّ لبنان، كانت جميعها جزءاً من الصراع الداخلي بين اتجاهين: اتجاه وطني عربي ديموقراطي، واتجاه فاشيّ طائفي انعزالي. لكن الاجتياح شكّل، في اختيار توقيته، وفي حجمه، وفي الأهداف التي وضعها أمامه، وفي الأدوات التي استند اليها في الداخل، تطويراً عاصفاً للصراع الدائر في الحرب الأهلية بين هذين الاتجاهين، من أجل فرض الغلبة للاتجاه الفاشي الانعزالي وإنهاء الحرب الأهلية على أساس وضع اليد على لبنان، والتحكّم نهائياً بمصيره وتطوّره. فالاجتياح إذاً دخل الحرب الأهلية بصفته جزءاً لا يتجزأ منها. وكان لا بدّ أن يكون القتال ضدّ هذا الاجتياح، وأن تكون المقاومة ضدّ الاحتلال الذي نتج منه، جزءاً لا يتجزّأ ايضاً من هذه الحرب».
من المثير، والمهم، والمُثري، التفكير بهذه الكلمات وعبرتها التاريخية ومغزاها السياسي، حين تتّجه الأفكار بنا إلى العدوان الاسرائيلي على لبنان عام 2006، بتوقيته وظروفه ونواياه، وبشكل مركّب ما، إلى العدوان الأميركي المتواصل على العراق، لا بل إلى مجمل الاجتياح الإمبريالي الأميركي الراهن للمشرق العربي بالاعتماد على شتّى العكاكيز، الإسرائيلية منها والعربية الرسمية الخانعة. وليتذكّر الجميع دوماً كيف أن قادة الصهيونية، وما يمثلونه من مصالح استعمارية، كانوا ولا يزالون يفكّرون «بجنون»، كما قال يغآل ألون، في اليوم الذي سينجحون فيه بتفتيت هذه المنطقة إلى كيانات طائفية. فليتذكر الجميع ذلك، سواء حيال الطائفيات المدوّلة المخطّطة ببراعة لخدمة مشاريع هيمنة سياسية كبرى، أو حيال طائفيات محلية ضيّقة مخطّطة لخدمة مشاريع أصغر، لكنّها لا تقلّ عن الأولى خطورة وحقارة. بالضبط مثلما لا تختلف جميع الطائفيات عن بعضها، في الخطورة وفي الحقارة أيضاً.
تبّاً لحالنا، أما آن الأوان لكي نعتبر، بينما كلّ التاريخ مشرّع أمامنا؟
* صحافي فلسطيني