صباح علي الشاهر *
في كلّ مكان في العالم، يفتخر القادة بتواضع أنّهم في حقبة حكمهم قدّموا شيئاً إلى شعوبهم، أعادوا حقّاً مسلوباً أو كرّسوا رفاهاً، أو عزّزوا جبروتاً، أو عمّقوا مكاسب، أو أعلوا من شأن أوطانهم، فماذا قدّم قادتنا الأشاوس إلى شعوبهم كي يتأبّد نسلهم في الحكم أو الحزب أو الطائفة؟ لماذا تصبح قيادة الحزب والطائفة سلالة؟
ينتقل القائد في أوروبّا من قصر الرئاسة إلى شقّة، أو بيت متواضع، مكتفياً براتبه التقاعدي في الأغلب الأعمّ، وأقصى ما يمكن أن يعمله بعد انقضاء فترة حكمه أن يعيّن مستشاراًَ لبنك أو مؤسّسة، أو ينخرط في العمل الاجتماعي والإنساني. أما عندنا، فلا يزيح القائد من كرسي القيادة إلّا الموت، أو الانقلاب العسكري أو الإجبار الخفي، وغالباً من العسكر، حتى لو بلغ مرحلة الخرف. وباستثناء لبنان، ليس هناك رئيس سابق على قيد الحياة، وإذا وُجد فغالباً ما يكون منفيّاً بعد طرده بانقلاب عسكري، وهنا نستثني سوار الذهب في السودان، الذي تكرّرت نسخته في موريتانيا أخيراً دون اهتمام يذكر.
باستثناء بوش الابن الذي جاء بعد دورتين انتخابيّتين من مجيء بوش الأب، وفي كلّ ديموقراطيات أوروبّا وأطرافها، لم يعرف حكم الابن بعد الأب، ولا توارث الحكم في العائلة الواحدة، وهذا لا يشمل الحكّام فقط، بل قادة الأحزاب والمنظّمات والطوائف. ذهب تشرشل في بريطانيا، فلم يرث الحكم تشرشل صغير، ولم يتزعّم الحزب حفيد أو قريب لتشرشل. ويصدق هذا على كل رؤساء الوزارات بعد تشرشل في بريطانيا، ورؤساء الجمهورية في فرنسا، والمستشارين في ألمانيا. ذهب لينين وستالين وحتى غورباتشوف، مثلما ذهب ماو وهو شي منه، فلم يرث القيادة نجل أو حفيد. بينما عندنا يصبح الأبناء والأحفاد قادة وعظماء لأن الوالد أو الجدّ، ولسبب ما، أصبح رئيساً لدولة أو حزب أو طائفة، ونحن حبانا الله بالعدد الوافر من القادة الأفذاذ، الذين يُعدّ كل واحد منهم ضرورة موضوعيّة وتاريخية، فصاحب العقل النيّر، الذي إذا قال أبطل قوله قول كلّ قائل، وإذا عمل أعجز عمله عمل كلّ من عمل سابقاً ولاحقاً، هو المبدع الأوّل، والسياسي الأوّل، الديموقراطي الأوّل والمُلهم الأول، وما علينا إذا أردنا خدمة طائفتنا أو بلدنا أو أمّتنا إلّا الانضواء تحت خيمته، والاستظلال بظلّه، وليس مطلوباً منّا سوى مسألة جدّ بسيطة، ألا وهي إعطاء عقلنا إجازة والانغماس مع المنغمسين بالتبجيل والتبخير بنعم سليل المجد والحسب والنسب، شيخاً كان أم قائداً أم زعيماً، عربياً كان أم كردياً، مسلماً أم مسيحياً، شيعياً أم سنياً أم درزياً. الغريب أنّ القائد، الزعيم، الشيخ، لم يجترح مكرمة، ولا فتح فتحاً في أيّ من ميادين السياسة أو النضال أو الفكر، ولم ينتصر حتى على بعوضة.
قادتنا وزعماؤنا راكموا الهزائم ولم يخجلوا. وطّنوا النفس على استمراء الهزائم بحيث باتوا يخافون النصر ويكرهونه. بالله عليكم، هل رأيتم زعماء وقادة مهزومين يكرّسون الهزيمة في أمّة ويكرهون النصر ويحاربونه؟ لن تجدوا زعماء خلّاقين وقادة مُصنعين كهؤلاء إلا في أمتنا المنكوبة.
بعد مسلسل الهزائم انتصرنا، لا لمرّة واحدة بل لمرّتين، لكنّ قامات قادة الهزائم وزعمائها لا تليق بالنصر، والنصر لا يليق بهم. شكّكوا فيه أوّل الأمر ثم عادوه وبالنتيجة حاربوه. ألا يحقّ لنا أن نقول إن النصر ليس بقامة قادتنا وزعمائنا، وإن الهزيمة هي ما يليق بهم.
هل هو من باب الصدفة أن تتطوّر دول شمولية لأنّها لم تجعل القيادة سلالة كالصين مثلاً، وتفشل شموليّات أخرى إلى حدّ دفع شعوبها إلى المجاعة لأنّها جعلت الزعامة والقيادة سلالة ككوريا الشمالية مثلاً؟
هل نقدّم كشف حساب بمن ورّث ومن على وشك التوريث في مشرق عالمنا العربي وفي مغربه، داخل القطر الواحد وفي الطائفة الواحدة، وفي الحزب الواحد.
من أين لنا أن نتطوّر إذا عطّلنا قدرات الشعوب، واستعضنا عنها بقدرات القائد والزعيم المُلهَم؟ وكيف يكون القائد والزعيم ملهَماً إذا كان الشعب مُهمَّشاً، ومُدجَّناً ومسحوقاً حتى العظم؟ ليس في واردنا التقليل من دور القائد والزعيم، فللقائد والزعيم دوره في التاريخ، ولكن أي زعيم وأي قائد؟ من له دوره في التاريخ هو الزعيم والقائد الحقيقي، وليس الخلّاق بفعل السطوة، سواء كانت سطوة الحكم أم سطوة المال، أم سطوة العصبيّة الطائفية أو المناطقية.
الزعامة والقيادة لا تورَّثان، سواء كانت زعامة دولة أو حزب أو طائفة، بل هي اصطفاء واختيار وشورى، والذي يليق بالقيادة هو الطليعي في الدولة أو الحزب أو الطائفة، والطليعي يأتي من وسط الناس، ولا ينزل عليهم من فوق متسلّحاً بالمال والقوّة والنفوذ الذي استمدّه من الأسرة أو الأب أو أي تأثير عصبوي استئثاري. عندما تكون الزعامة اصطفاءً واختياراً فإنها ستكون قطعاً ممثّلة للقطاع الأوسع من الناس، وبالتالي ستكون معبّرة عنهم إن سلباً أو إيجاباً (فكيفما تكونون يولّى عليكم)، وسيظلّ أمر تغيير الزعامة واختياره بيد الناس الذين اختاروا هذه القيادة أو هذه الزعامة، فالاصطفاء والاختيار لا يعنيان التوقيع على بياض، ذلك أن مشروعية الزعيم والقائد مشروطة بمقدار تمثيله لهموم من اختاروه وتطلّعاته. والناس يختارون من أجل حياة حرّة، كريمة، وليس ثمة شعب أو طائفة ترتضي الذلّ والهوان، وتقبل تراكم الهزائم. أفضل الناس بالتقدير والاحترام، وبالتالي بالزعامة والقيادة هم أولئك الذين يجترحون النصر، ويقتنصونه قنصاً من رحم الهزائم.
* صحافي عراقي