إيلي نجم
التشكيك بالأصالة يبدأ في أنسنة الدين

في الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي، تبلورت الاتّجاهات الإيديولوجيّة للفكر العربي والإسلامي كردّة فعل على الظروف المحليّة والدوليّة وتحدّياتها. من أهداف هذه الاتّجاهات التحرّر والدفاع عن الهويّة والتنمية الشاملة في سبيل اللحاق بركب الحضارة العصريّة. أمّا الوسائل، فتوزّعت على إحياء التراث عموماً، والتراث الديني تحديداً وتفعيل ديناميّته الذاتيّة، والأخذ بفعاليّة العلم والتقنية والتنظيم الاجتماعي. وكانت هذه الإيديولوجيّات قوميّة أو عروبيّة، واشتراكيّة عربيّة أو إسلاميّة، وماركسيّة، وتراثيّة دينيّة أو أخلاقيّة.
يعرض الكتاب الدراسات التي تُعنَى بتلك الاتّجاهات الإيديولوجيّة وطرق إدراك القضايا المطروحة في العالم العربي والإسلامي. وهو يعرضها بحسب الترتيب الزمني لصدورها، من دون الفصل بين الدراسات التي وُضعت بلغات أجنبيّة والدراسات التي وُضعت باللغة العربيّة. ومن محاسن هذا الترتيب أنّه يسهّل تتبّع الفهم الذاتي للفكر العربي، بالرجوع إلى المواقف الإيديولوجيّة، الظاهرة أو الضمنيّة، التي اتخذها أصحاب هذه الدراسات.
من ناحية ثانية، يُظهر هذا الترتيب تعدُّد الوجوه التي عولِج من خلالها الفكر العربي، بما فيه ارتباطه بالفكر الذي كان سائداً في المراحل السابقة، إن من حيث المشكلات أو من حيث الاتّجاهات الإيديولوجيّة. ويبيّن هذا الترتيب أخيراً تأثير الطرق الرئيسة في إدراك المشكلات وتصنيف الاتّجاهات الإيديولوجيّة أو تجانسها أو اختلافها أو نجاحها أو حدودها.
صحيح أنّ العالم العربي معرّض للتجزئة المتمثّلة بالتباين الجغرافي والإثني والديني والثقافي والاقتصادي والسياسي، لكن ما لا شكّ فيه هو أنّ الشعوب العربيّة أو المستعربة تعبّر بوضوح، رغم اختلافها وانقسامها، عن عزمها على أن تكون أمّة واحدة، كنتيجة لشعورها العميق بأنّها تنتمي إلى عالم واحد وبأنّه يربط بعضها ببعض مصير واحد. يقول المؤلّف إنّ أساس هذا الشعور وذلك العزم هو كون العالم العربي يتميّز بنواة ثقافيّة مشتركة بين الشعوب العربيّة، وبوضع اجتماعي تاريخي يجعل هذه الشعوب تواجه المشكلات عينها. أمّا النواة الثقافيّة، فهي اللغة العربيّة والإسلام والنظرة إلى الكون والبنية الذهنيّة. اللغة العربيّة هي التي أقرّها القرآن فاستمدّت منه استمرارها وثباتها. وهي المبتدى والمنتهى، على الرغم من تعدّد اللهجات العاميّة واختلافها. والإسلام مرتبط بهذه اللغة، لغة القرآن. وهو شكل ثقافي وعامل حضاري، إن بالنسبة إلى المسلمين أو بالنسبة إلى غير المسلمين. والإسلام جزء لا يتجزّأ من عالم المسلمين وغير المسلمين، ذلك لأنّه يحتوي، من حيث هو منظومة دينيّة، القيم المميّزة للثقافة العربيّة ويثبّتها، كما أنّه ينبني على الشكل الهندسي الذي انبنت عليه المنظومة الدينيّة اليهوديّة كما المسيحيّة، ويعبّر عن التطلّع الواحد إلى المطلق الإلهي.
يرى المؤلّف أنّ هذه النظرة الدينيّة إلى الكون التي تجسّدت في الإسلام واللغة العربيّة كوّنت البنية الذهنيّة العربيّة المميّزة في تصوّراتها ودوافعها والتي تتّصف بالقبول بنظام الكائنات القائم وبنظام المجتمع باعتبارهما تعبيراً عن المشيئة الإلهيّة، كما تتّصف بالخضوع لهذه المشيئة على النحو الذي تتجلّى فيه.
يلاحظ المؤلّف أنّ هذه الملامح تتّصف بها النواة الثقافيّة التقليديّة، في حين أن هذه النواة هي موضوع تساؤل وتشكيك. لكنّ هذا التشكيك نفسه لا ينطلق من الخارج، بل يتكوّن ضمن الثقافة موضوع الشبهات. وعليه، فإنّ النواة الثقافيّة ليست هي المقصودة، بل المنظومة الثقافيّة، أي الشكل التاريخيّ العارض الذي تجسّدت فيه هذه النواة. لذا فالتشكيك يظهر، على الرغم من جذريّته، كأنّه محاولة لاستعادة مفقود، دافعه الاهتمام بالأصالة، أي الاهتمام بتحرير الطاقة الكامنة في الثقافة. وينسحب هذا الأمر، برأي المؤلّف، على محاولات أنسنة الدين أو محاولات إرجاع الخطاب الديني إلى أساساته البشريّة. فكأنّ المرفوض جسد الدين وليس روحه.
* كاتب لبناني





العنوان الأصلي
بين الأصالة والتجديد
الكاتب:
بولس الخوري
الناشر
المكتبة البولسيّة