علي الصغير *
لعلّه لا مبالغة في القول إنّ الأزمة الجهنّمية التي يتخبّط اللبنانيون فيها اليوم ويكتوون بنارها الموقدة هي في حقيقتها انفجار للمنظومة اللبنانية بعناوينها وثوابتها يتجاوز المقاربات والحلول التي يتداولها المعسكران المتصادمان ـــــ الإخوة ـــــ الأعداء، أي قوى المعارضة وقوى الموالاة. فالأزمة الراهنة المتأتّية من مصادر مختلفة داخلية وخارجية متشابكة، والمجسّدة على غير صعيد ليس مبعثها ـــــ كما يتوهّم البعض ـــــ المحكمة الدولية، ولا حكومة الوحدة الوطنية، ولا انتخابات رئاسة الجمهورية. وليست المشكلة مسألة سوء في الفهم والنيّات أو خطأ في تفسير المواد الدستورية وتطبيقها أو إخلال بالمواثيق والاتفاقات، ولا هي، بالطبع، بين أحمد والمسيح أو بين هذه الطائفة وتلك، لأنّ الصراعات التاريخية على تعدّد عناوينها وأدواتها هي في الأصل صراعات سياسية بامتياز.
وانطلاقاً من التصوّر الجدلي للعلاقة بين الأسباب والنتائج، وتحوّلاتهما المتبادلة، يمكن القول إنّ الأزمة الحالية الخانقة وغيرها من المشكلات العالقة، وإن كانت تصلح لأن تكون عللاً لأزمات ومآزق لاحقة، فإنها في شقّها الداخلي تبدو نتيجة حتمية تنمّ بالضرورة المنطقية والوجودية عن الصيغة الطائفية المولّدة بطبيعتها للعنف والاضطرابات. ولئن كان للأزمات السياسية والاجتماعية غير سبب، فإن للنظام الطائفي شأناً خاصّاً معها ومع توابعها من مآسٍ مريعة. فالأخيرة هي الأخت الرضيعة للصيغة، وهما متلازمتان بالطبع والغريزة، أي أنّ الأزمات هي سمة بنيوية ملازمة لها. ولمّا كانت حقيقة الصيغة لا تنفصل في الأصل عن تاريخها، فإنّه لا مناص من العودة إلى ماضيها، علّنا بذلك نقف على بعض جذور أزماتنا المتلاحقة.
والحال، لو استعرض الباحث في تاريخنا المعاصر والمنقّب عن «روائع» صيغتنا الفذّة و«بدائعها» التي لا يكلّ اللبنانيون من المفاخرة والتباهي على الخلائق بفرادتها ورساليتها، لوجد أنّ لبنان وقياساً على شحّة موارده وقلّة سكانه وصغر مساحته، شهد سيلاً متدفّقاً من المحن السياسية والحروب الطاحنة التي قلّ نظيرها في سائر الدول والبلدان.
صحيح أنّ ثمّة مسائل وشعارات تبدو للوهلة الأولى مشتركةً وجامعةً تردّدها أفواه المعارضة والموالاة على حدّ السواء، مثل شعارات الحرية والوحدة والسيادة وغيرها، إلاّ أنّها في حقيقة الأمر لا تعدو كونها متفقةً ومشتركةً في الاسم واللفظ فقط. فالعبرة ليست في الأسماء، بل في الممارسات والمعاني. وإنه لمن المأساوي حقّاً أنّ الشروخ والانقسامات بين اللبنانيين هي أعمق وأخطر مما بينهم وبين غيرهم، وهي من الحدّة والشدّة بمكان أنها باتت تشكل معه إيذاناً بافتتاح دورة جديدة من العنف و«الألعاب» الوحشية. إضافة إلى ذلك، فالمآزق السياسية الداخلية والخارجية، والاختناقات الاقتصادية لم تكن ضاغطة بأثقالها وكوابيسها في أي وقت مضى مثل ما هي عليه الآن، حيث يُخشى أن يكون للعنف الدور الأكبر في حلّ الإشكالات القائمة، وإعادة رسم العلاقة بين القوى السياسية الطائفية.
وحتّى لو تبنّى المرء وجهة نظر المعتصمين بحبل الصيغة المقدّسة والثابتة، والمؤمنين بقدرتها الإعجازية على تجاوز لعنتها السيزيفية، والمتحصّنين داخل جحورهم الطائفية العفنة، فإنه سيكتشف، وغالباً بعد فوات الأوان، أنّ هؤلاء قد ينجحون في الوصول إلى تسوية صورية مؤقّتة برعاية خارجية تحفظ لهم، طبعاً، مصالحهم المتقاطعة مع مصالح الخارج، غير أنهم بالتأكيد لن يستطيعوا بناء الدولة القوية والمجتمع الموحّد والحديث. فكما كان الفشل الذريع نصيبهم في الماضي، كذلك سيكون قدرهم حاضراً ومستقبلاً. والأصل في ذلك إنما يعود، بالدرجة الأولى، إلى ما تحفل به صيغة النظام الطائفي من أعطال تكوينية وتشوّهات خلقية وتناقضات شتّى مستعصية لا إمكان لإصلاحها والتوفيق بينها في الفكر ولا في الواقع، حتى لو اجتمعت عقول معشر الحكماء والعلماء على الإتيان بمثلها والتأليف بينها لما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
ويتجلّى تهافت الصيغة بأبهى صوره على مستويَين: أولهما، اشتمالها على مهمّة مستحيلة أساسية خلاصتها إخضاع المتحوّل للثابت، المتحرّك للساكن، اللامتناهي للمتناهي، وعجزها المبدئي عن المصالحة مع منطق الحياة والتاريخ، وثانيهما، وفرة ما تنطوي عليه من تناقضات في التعريف contradiction in adjecto، أي جمع مفاهيم ينفي بعضها بعضاً، مثل مزاعم المواءمة بين الطائفية السياسية والدولة، الطائفية السياسية وكل من الديموقراطية التوافقية واحترام حقوق المواطنة والمساواة والسيادة والاستقلال... وما شابه.
هل الدولة ممكنة في كنف نظام طائفي؟ لا شكّ أنّ لهذا التساؤل أهمية وراهنية كبيرتين بسبب ما نشهده اليوم من غيرة مفاجئة وشديدة على الدولة ومزايدات فائقة في حبها وطلب ودّها.
وفي معرض السجالات الدائرة حول هذه المسألة، دأبت قوى الموالاة على توجيه اللوم إلى حزب الله وتحميله المسؤولية الحصرية عن عرقلة مشروع بناء الدولة بذرائع عديدة من أبرزها مربعاته الأمنية، ومصادرته لقرار السلم والحرب وإلى آخر اللائحة الاتهامية. لا جدال في أنّ حزب الله وعلى حداثة سنّه مقارنةً مع غيره من الأحزاب اللبنانية الفاعلة، يملك من المؤسّسات والتنظيم والقوة ما يخوّله ممارسة الدور الذي تؤديه الدولة. لكن، ومن دون الخوض في تفاصيل الشبه والاختلاف بينه وبين هذه الأحزاب، ثمّة قاسم مشترك بينهم جميعاً ألا وهو شهوة السلطة التي هي مبدأ وجود الأحزاب السياسية ومحرّكها، ذلك أنّ مكان هذه الشهوة من قلوب الأحزاب هو القلب كلّه، وليس فيه لشيء غيرها موضع. فكلّ الأحزاب مسكونة بهوى السلطة، وتطمح في نهاية المطاف للوصول إليها متحيّنةً الفرصة المناسبة لتشكيل الدولة والمجتمع على صورتها ومثالها.
ومتى فَقَدَ الحزب السياسي هذا المطمح يكون قد فَقَدَ مبرّر وجوده أصلاً. فلا قداسة ولا زهد في عالم السياسة. فالحالة شبه الدولتية لحزب الله، التي قلّما يبرؤ حزب لبناني منها كلياً، ليست حالة وحيدة في تاريخنا المعاصر. فقد سبقه إليها كثيرون وفي مقدمهم خصومه السياسيون الحاليون الذين لم يكونوا يوماً في منأى عن تهميش الدولة ومحاربتها: الدولة الكتائبية ـــــ القواتية في المناطق الشرقية من بيروت، والإدارة المدنية في الجبل، والدولة اللحدية العميلة على الشريط الحدودي مع فلسطين المحتلّة، والدولة العرفاتية في باقي المناطق اللبنانية.
وفي ضوء هذه الوقائع وغيرها يبدو تبسيطاً فجّاً وافتراءً على الحقيقة والتاريخ إلقاء تبعات تعثّر بناء الدولة على حزب الله وحده، لأن الأخير نفسه بما هو عليه اليوم من قوة ونفوذ حصيلة طبيعية لعوامل عدة من أبرزها غياب الدولة المزمن وإقالتها وعزوفها عن الاضطلاع بمسؤولياتها وواجباتها. وليس في هذا الكلام تبرئة للحزب ولا محاولة لإدانة الآخرين أو العكس، بل إنّ المقصود هو إن كان ثمّة مَن يستحقّ السَّوق إلى قفص الاتهام فهو الصيغة نفسها مصحوبةً بدُعاتها الأيديولوجيّين وحُماتها الطائفيّين ـــ السياسيّين القيّمين عليها أجمعين. لو أمعن واحدنا النظر في أمر العلاقة بين الطوائف وكل من الدولة والمواطن، كما هي واردة في دستورنا المجبول بالتلفيق والتناقض، لحار فيها واستغلق عليه الفهم.
ففيما تقرّر مادته السابعة (مادة المساواة) أنّ «كلّ اللبنانيّين سواء لدى القانون، وهم يتمتّعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية، ويتحمّلون الفرائض والواجبات العامّة، دونما فرق بينهم»، ما يعني أن لا سلطة تعلو على سلطة القانون، وأن الدولة لا تمارس التمييز بين مواطن وآخر من حيث الحقوق والواجبات، نرى الدستور نفسه يجتثّ مبدأ المساواة من جذوره باعتماده الطوائف وكيلاً حصرياً ووسيطاً إجبارياً بين الدولة والمواطن في كل ما يتعلق بالشأن الحياتي والمدني والسياسي، بدءاً من ميدان الأحوال الشخصية والتربية ومروراً بالوظائف العامة والتمثيل في مجلس النواب والحكومة وانتهاءً بالقسمة الطائفية الأبدية للرئاسات الثلاث. ومن شأن ذلك أن يؤدي فعلياً إلى أمرين: أولهما سحق الفرد وإذابته في طائفته وجعله بصمةً من بصماتها لا ينفصل عنها فكراً ومشاعر وسلوكاً.
ولما كان الهاجس الرئيس لصيغتنا هو مراعاة التوازن الطائفي بأي ثمن وتحت أي ظرف، وكانت الطوائف نفسها لا تحيا في فضاء مفرغ ومعزول عن التحولات الاجتماعية والتاريخية، فإنه كلما تعاظم شأن إحداها عدداً وعدة واشتد ساعدها إقليمياً ودولياً استشعرت الطوائف الأخرى الخطر الداهم وارتفع منسوب قلقها من مطالبة الطائفة الصاعدة بإعادة توزيع الحصص والمراكز بما يتناسب طردياً مع التغيّر الحاصل في حجمها وقوتها. ونظراً إلى كون الحقوق الممنوحة للطوائف، وعلى كثرتها، محددة كميّاً، فإن كل حق تكتسبه طائفة يحتسب بالضرورة من رصيد الطوائف الأخرى، الأمر الذي يدفع هذه الأخيرة إلى استجماع الهمم للذود عمّا تعتبره حقوقاً مشروعة، والانتفاض على ما تحسبه تعدياً على كرامتها ومكانتها.
ومن هنا تَوَجُّسْ الكل من الكل، وشعور الكل بالتهميش. فالصيغة الطائفية تقيم بين أبنائها نمطاً من العلاقات يفرض عليهم أن يكونوا دوماً على أهبة الاستعداد للمواجهة. ولا عجب في ذلك. فما دامت القوى الطائفية، وهي الأكثر نفوذاً، تتزاحم على المغانم نفسها والمراكز عينها، ويسعى كل فريق منها وبكل الوسائل الممكنة إلى الاستئثار بها وتطويعها لمآربه الأنانية الضيقة، فإن العلاقة بين هذه القوى لا يمكن إلاّ أن تكون كيدية وعدائية. ويجد قدر الدولة البائس المرسوم دستورياً تكملته وتبريره في الخطاب الأيديولوجي لفلاسفة الصيغة الطائفية ودُعاتها من أمثال ميشال شيحا وكمال يوسف الحاج وشارل مالك وكثيرين غيرهم. فما تركه الدستور غامضاً وملتبساً عن مكانة الدولة ودورها أفصح عنه شارل مالك بصراحة ـــــ وهو بالمناسبة عضو الجبهة اللبنانية ومنظّرها البارز إبّان الحرب الأهلية ـــــ قائلاً: «لعل الخاصية المميزة للنظام اللبناني بالدرجة الأولى هي أن الدولة ليست «مؤسسة المؤسسات»، كما هي الحال في كثير من البلدان، بل إن الدولة مؤسسة في المؤسسات... وهي مؤسسة خدمة الشعب، واحدة في مستوى مؤسسات الشعب والتراث لا أكثر ولا أقل...». وهذا القول ينبني على قول آخر سكت عنه شارل مالك مفاده أن الدولة والمؤسسات الأخرى لا تتساويان في الدور والسلطة، بمعنى أن الدولة هي الحلقة الأضعف والمؤسسة الأدنى، التي ينبغي لها ألاّ تتمتع بأي امتياز على بقية المؤسسات، وبالأخص، الطائفية منها.
* كاتب وباحث لبناني