عبد الأمير الركابي *
بالنسبة لنفر من اللبنانيّين، ثمّة وجاهة ما يجدونها في طرح سؤال من قبيل «ما حقيقة علاقة حزب الله بالمسألة العراقية؟». ولكن القليلين فقط يعتقدون أنّ هنالك ما يمكن التساؤل بصدده على هذا الصعيد. حزب الله وجمهوره مكتفون بذاتهم وشؤون بلدهم (ليس السيد نصر الله هكذا)، وقضاياهم المباشرة معلومة، يتقوّون عسكرياً: صواريخ وتدريب، مزيد من العلاقة بالناس وكسب ثقتهم، ضمان أقصى قدرة على المناورة والمفاجأة على الأرض، الاستفادة من خبرات المواجهة الأخيرة، التركيز على ما يوجع العدو، سدّ الثغر، الأمن والاستخبار...
إنّها مقاومة «بؤرة» لديها غطاء سياسي منظّم «لنقل إنه حزب». حين تنتصر البؤرة وتحقّق إنجازات باهرة، يتضخّم الحزب ومعه تتّسع البؤرة حتماً، وتنشأ تناقضات عضوية جديدة بين مقاييس الـ«عسكر» وطرائق عملهم الصارمة، وبين حزبهم الذي يتقدّم يومياً نحو العمل السياسي، وواجهته لديها الطموح البديهي للوزارات والنيابة وحتى لتأمين المصالح الشخصية، ولو من خرم المراقبة الصارمة التي تمارسها «البؤرة».
ولكن ماذا يفعل العسكر؟ في المقاومات العربية، ظهرت خصوصية تستحقّ التنويه. على الصعيد الفلسطيني مثلاً، كانت المعضلة الكبرى هي كيفية إقامة دولة من دون أرض على ركيزة المقدّس، وهذا ما فعله أبو عمار مستغلاً ظرفاً استثنائياً تصاعدت خلاله رياح حركة التحرّر العربية والعالمية إلى الذروة. ومن المخيّم إلى الدولة من دون أرض، كانت «المقاومة» هي أداة صناعة الحدود مع الآخرين وتذكيرهم بوجهة الدولة. هل كان أبو عمار غير مايسترو وضابط إيقاع لتداخلات غير مفهومة عادة، فمن كان يستطيع التمييز بين حيّز «المجتمع الفلسطيني» و«الثورة الفلسطينية» وكيف؟ بينما القضية منتشرة على أصقاع واسعه عربياً، تقاتل خارج أرضها. وأين وكيف كان يمكن للرقابة أن تمارس وقتها؟ لعلّها معجزة زاخرة بالأخطاء والانحرافات التي لا تُحصى، ولكن المجتمع المأخوذ من مصيره الأول (المخيم) إلى دولة بلا أرض، منتشرة بلا حدود، لم يكن مهيّأً للانشطار قيمياً، وبين العسكر وعامّة الفلسطينيّين القيم كانت هي ذاتها.
تكمن حقيقة «حزب الله» وميدان قوته في أنّه من غير جنس وبنية الحرب وصراع الطوائف وأهدافها وانشغالاتها، وهو لا ينتمي إلى البنية السياسية اللبنانية التقليدية المعروفة (لهذا هو خطر بنظر القوى والتكوينات الراسخة في قلب البنية التاريخية للبنان). وبهذا يصبح الحزب هو «السيد»، وليس «حسن نصر الله» بالذات، إنه «الشيء المختلف». هذا أولاً، أما ثانياً فنعثر عليها في اشتراطات الممارسة، فحزب الله ليس مسموحاً له أن «يخسر»، وعندما لا يكون هو جزءاً من طاحونة الحرب الأهلية ويستطيع تسجيل انتصارات على العدو الإسرائيلي، فإنه يصبح وقتها فوق تعبيرات البنية اللبنانية بامتياز. وعلى هذين الوترين يعزف أنشودته ويتصرف قادته (وقائده خصوصاً). وهو، أو هم، يعلمون بأن الطرف الآخر من جهته مهموم بالتركيز على هذين المحورين: محاولة توجيه ضربة قاصمة له، التشكيك بانتصاراته (مثلاً ما أشاعته قوى 14 آذار، نقلاً عن «مصادر مطلعة»، عن فظاعة الخسائر التي مني بها الحزب خلال حرب تموز، مع التأكيد الجازم بأنه لن تقوم له قائمة بعد اليوم: تمنيات محسوبة)، ومساعي جرّه إلى الساحة التقليدية للصراع. كل ما يفعله الحزب هو مجازفة وتدمير وخسارة (لمن؟)، وخاصة بعد أن انسحب الإسرائيليون من جنوب لبنان، للبنية القائمة ولتركيبة القوى والأحزاب والمؤسسات اللبنانية. الحقيقة أن مناوئي حزب الله يخافون من حضوره في السياسة اللبنانية أكثر بكثير من انغماسه السابق بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
وهذه معركة ليست سهلة، من الصعب في غمرتها توقع اتخاذ حزب الله مواقف واضحة تماماً من القضية العراقية، وخاصة في السنة الأولى على عمر الغزو الأميركي للعراق، حيث كانت هنالك فسحة سمحت لحزب الله بأن يمارس بعض الدور، فساند بلا تحفظ المقاومة العراقية بكل أطرافها وقام ببعض المبادرات المهمة، إلا أنه تعرض لهجوم شرس من جماعة العملية السياسية الأميركية (حدث ذلك مثلاً بعد أن عقدنا مؤتمرنا التحضيري لـ«المؤتمر الوطني التأسيسي» في بيروت خلال صيف عام 2004 بدعم ومساعدة الحزب، وإثره جاء ممثلو المجلس الأعلى وحزب الدعوة وأعربوا عن احتجاجهم لقيادة حزب الله بلغة وقحة أحياناً، والحزب يعلم بأن هؤلاء يمكنهم أن يشوّشوا عليه في إيران). الغريب أن المؤتمر تعرض لهجمة شاملة تبارى في الشراسة فيها كل من البعثيين وفلولهم من ناحية، وأركان «العملية السياسية الأميركية». ويُرَجَّح أن الحزب اتخذ قراراً بعدم التدخل في القضية العراقية تحت وقع تلك الضغوط من جهة، وما شهده لبنان والمنطقة من تطورات لاحقة من جهة أخرى، وخاصة بعد خروج السوريين وشن إسرائيل حربها العدوانية على لبنان. القضية العراقية والمقاومة العراقية ليستا من دون نواقص أو أخطاء وعلل فادحة. وعلى ما أرى، فإن الإصرار على اتخاذ حزب الله مواقف مبدئية من القضية العراقية أمر لازم إذا كان لا يؤثر على قضاياه، ولا يقلل من قدرته على مواجهة الحرب والضغوط الهائلة التي تنصبّ عليه، ففشله وهزيمته سيكونان بمثابة كارثة على كل القوى التي تناهض الهجمة الأمبراطورية الأميركية، وأولها العراق ومقاومته.
الوجود الأميركي في العراق دخل مأزقاً قاتلاً بفعل تصاعد المقاومة العراقية، وخاصة مع تجلّيها العام والشامل خلال انتفاضة نيسان عام 2004، بعد سنة كاملة تماماً من الغزو. وقتها قاتلت الفلوجة والنجف معاً، وكادت الهزيمة المحققه تلحق بقوات الاحتلال، وهو ما جعل الترابط العراقي بالأفق الإقليمي ينقلب ليصبح أقرب إلى مدخل لاحتمالات هزيمة أكبر. عندها انتقلت المعالجة الأميركية من «الساحة العراقية المفتاح» إلى الأفق الإقليمي برمّته، وتحوّل هذا إلى هدف فوري بدأت الخطط الأميركية بمعالجته كحزمة كلها راهنة، وتم تعديل مسارات وموضوعات الهجوم الأميركي بحيث لم تعد سوريا وحزب الله وإيران من الأهداف اللاحقة، وأصبحت أحداث من قبيل مقتل الرئيس الحريري وتفجير مرقد الإمامين في سامراء والطريقة التي نفّذ بها إعدام صدام حسين، لوازم حيوية للهجوم المضاد. فلقد تقرر وقتها إغراق المقاومات بالاحتراب الداخلي والطائفي تحديداً.
لقد تم إغراق المنطقة، وفي مقدّمها المقاومات خلال هذه الفترة المنصرمة، بالاحتراب الطائفي، وشاع جو مسعور من إحالة كل شيء وكل تصرف إلى القاموس الجزئي والمناطقي، لا بل والأدنى منه، ناهيك عن الهجوم العسكري المستمر على الجبهات الثلاث.
وبينما تُظهر المقاومات العربية، وخاصة في لبنان والعراق، تقدماً في الجانب العسكري، فإنها متأخرة تماماً سياسياً وفكرياً. وفي العراق مثلاً، هنالك صراع نشأ منذ الأيام الأولى للاحتلال بين تيار ينادي بتحويل «المقاومة» إلى مقاومة شاملة، وتيارات متخلفة من الماضي أو تقاتل من أجل العودة إلى السلطة، وقوى أخرى تؤمن بإمكان بعث الدولة الأحادية المنهارة، والصراع مستمر. ومع أن حصيلة التجربة وقساوتها أضعفتا الاتجاهات الجزئية، إلا أن الحل «النظري» لم يتحقق، أو أنه لم يعلن على الأقل. وفي مثل هذه الحالة، كيف لنا أن نطالب حزب الله بموقف صحيح من القضية العراقية؟
لا شك أن المعضلة الكبرى التي تواجهها قضية العراق ولبنان وفلسطين اليوم هي «نظرية» بالدرجة الأولى، مع أن هذا الاعتقاد ليس مقبولاً من جانب أولئك الذين يحتكمون إلى «مجد البندقية» لوحده، ثم يغرقون في بحر الاحتراب الطائفي والمناطقي والحزبي. برأيي، إن التاريخ عاد يقول اليوم أيضاً «لا مقاومة منتصرة في العالم العربي من دون رؤية نظرية شاملة»، وهذا أمر حاسم في حالة العراق، في بلد يعاني لا من الاحتلال وحسب، بل من معضلة انهيار الدولة وعدم توفر إمكان إعادة بنائها على القواعد والأسس التي قامت عليها بين عامي 1921 و2003، في وقت لا توجد فيه رؤية وطنية عراقية أصلاً، فالنخب الحديثة العراقية فشلت خلال العصر الحديث في وضع أسس تصورات وطنية مقبولة توحّد نظرة العراقيين للعراق، وتدعم الهوية التي من المستحيل قيام نظام سياسي راسخ من دونها. وهذا اليوم ما يقرر انتصار أو فشل المقاومة العراقية.
* كاتب عراقي