يسار أيوب *
منذ ثلاث سنوات بالتمام والكمال، تحلّقنا مجموعة صغيرة على مدى أكثر من عشرة أيام أمام مشفى عسكري فرنسي أطلقنا عليه اسم «مشفى عرفات». يرتفع العدد ليصبح بحدود المئة، ثمّ ينخفض ليقلّ عن عدد أصابع اليدين معاً. جورج غالاوي النائب البريطاني «المشاغب» كان هناك يوماً، وكان هناك وزراء ونوّاب وقياديون فلسطينيون وعرب، مفتي فلسطين كان معنا يوماً، رجال دين مسيحيّون ويهود، جماعة ناطوري كارتا كانوا لمدة يومين.
الضيوف الأعزّاء على مدى فترة مرض «الختيار» لم يتوقّفوا عن الحضور ليقفوا بيننا دقائق أو سويعات ثم ينطلقوا بعيداً. وبقينا ذات المجموعة تقريباً مع فريق واسع من الإعلاميين أخذوا زاوية لهم ليحصلوا على الخبر الأكيد... «هل مات الختيار؟». لم نكن نعلم لماذا نحن هنا، ضدّ من نتظاهر أو نعتصم، ويقيناً لم يكن لنا سوى الحزن نعتصم به. أجواء الألفة تشكلت سريعاً بين ناس المجموعة، هذا يُحضر شاياً من منزله، وآخر يُحضر القهوة وثالث يُحضر ما يتيسّر له من البسكويت والطعام الخفيف. الأحاديث تدور، تقترب حدّ الملامسة من الصامد على فراش المرض وتبتعد لتحضر كل فلسطين معنا في برد باريس.
يخرج الناطق باسم المشفى، نتأهّب لنسمع، وتتأهّب كاميرات التلفزيونات المختلفة، يقول ولا يقول، يشرح ولا يشرح، ثمّ يدخل من حيث خرج تاركاً لنا أملاً صغيراً، على الأقل لم يزل حيّاً. لغز مرضه حيّر، وما يزال، كل من كان يبحث في الحقيقة وعنها. امرأة مغربية «مرابطة» أمام المشفى قالت ببساطة « لقد قتلوه، ولكنه كما في كل مرة سيخذلهم وسيخرج على قدميه من هذا المشفى». هل كانت ببساطتها هذه تعرّفه بطائر الفينيق الخارج من رماد موته؟
عرفات يعرف جمع شملنا، اختلفنا معه أم اتفقنا. كان الوحيد القادر على لمّ العائلة، بحنانه وقسوته، كأب كبير، كان يصرخ ويستعطف، يحتج وينذر، يهدّد ويتوعّد، يفي ولا ينفذ. كان عرفات، مثل ملايين شعبه، صورة الفلسطيني الباحث عن وطن. كوفيته ارتفعت في سماوات العالم رمزاً للمحتجّين على أي شيء، و«فلسطينه» انتصرت في كل ساحات العالم إلا هناك، في فلسطين ذاتها.
«ليلى شهيد»، مفوضة فلسطين في فرنسا، والتي كنا ندعوها فخراً بالسفيرة، كانت في دخولها وخروجها تتوقف لتلقي علينا ابتسامة حزينة، وتمشي في طريقها. لم تكن لتلقي بالاً للحديث عن «الرئيس عرفات» مع هؤلاء «البسطاء» المتجمعين حبّاً بالرجل الذي شغل العالم يوماً. فاروق القدومي، رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير، دخل وخرج ولم يلتفت إلينا، امرأة لبنانية صرخت عليه من بعيد بالفرنسية «هيه، أنت... تعال هنا» ركب سيارته وغادر. عماد الفالوجي الوزير يوماً ما، كان بيننا منتظراً الإذن بالدخول، وحين دخل لم نعرف كيف ومتى خرج. وحده المفتي التميمي توقف ليرد على سؤالنا بدمعة من عينيه... ويتركنا حائرين بين الحقيقة والوهم الجميل.
في حصاره الأخير، كان عرفات رمزاً لكل المحاصَرين. وفي رفضه التوقيع على ما بقي من الوطن، كان شيخ الرافضين. عاد من كامب ديفيد ليقول لشعبه بصراحة: لا يريدون لنا في أرضنا متّسعاً لقبر نحني رؤوسنا فيه قبل النوم. لا يريدون لنا سوى الموت. موتٌ عارٍ وغائض في النسيان. هم كانوا يعدّون لنا المنفى لكي يستهدفوا قمراً فلسطينياً يشعّ بكل بهائه وينير بقايا بيوتنا المهدمة. كان عرفات شيخ الرافضين ولم يقبل المسّ بثوابت مات لأجلها الآلاف، ولأجلها، هو ذاته، عاش بين مسارب الموت، يشرب من ندى الصبح المتجمع على بندقية، ويستظل بزيتونة تقطر زيتها دماً على لحيته الأزلية. عرفات... سيد الجرح والحزن، لم يترك بعده من يقول لا.
صورته المعلَّقة على جدران المكاتب والأبنية الرسمية تختلف كليّاً عن صورته المعلّقة في قلوب الملايين الملايين. وعندما عاد رافضاً أهداه شعبه انتفاضة. «شعب الجبارين» هبّ بكل روحه المثلومة ليقول له في رفضك كلنا معك. وفي حصارك نرفع الهامات تحية يا سيد المحاصرين، وفي موتك المنتظر، منذ أربعين عاماً، نحن الكفن والدمع والشموع التي تزين مجد الشهادة.
سيجتمعون في «أنابوليس»، ربّما سيبحثون عن «تسوية عادلة»، في عدلها يكمن الظلم الأبدي، وفي عدلها يمطر الاحتلال موتاً ويزدهر، يأكل زوايا زواريب القدس ـــــ قدسك ـــــ وينتقل نحو الحنين. في التسوية العادلة يموت الحنين الفلسطيني الفريد، فليس من العدل أن يرى لاجئ قلبه مهدّماً بالحنين العصيّ ولا يقتله. هل سيطلب العالم منّا أن نمثّل موتنا قبل القيامة؟ وهل سيطلب «الجزّار» منا أن نهدم أسوار عكا كي نبيح فضاءها للقادمين مع البرد والصقيع؟ هل سيطلب منّا عباس أن نكفّ عن الأنين وعن بكاء وطن لم تنله أظافرنا فانتظرناه على جمر المنافي وعشب البراري؟ أم سيطلب منّا ياسر عبد ربه أن نبيع خبايا ذكرياتنا في سوق النخاسة في جنيف؟
عرفات... يا سيد الصمت والنسيان، ربما في صمتك الآن تضحك، أو ربما تدمع؟ فأوسلو التي سعيت بكل ما فيك للوصول إليها قتلتك. والقابضون على جمر ثوابتك اليوم غائبون. لم تترك لنا ولداً يذكّرنا بك، ولم تترك من يسير على طريقك يا شيخ السائرين نحو الشمس الفلسطينية. هم اليوم لا يذكرونك كأنك يوماً لم تكن أمامهم وإمامهم. صورتك شاحبة. شمعة ظلامك ومسدسك الحربي ومقاطعتك التي أكلت منها الجرّافات والدبابات ما زالت شاهداً على أي من الطرقات ينزل مطر الوحدة وعلى أي من المسالك يمسك الواحد منّا سكينه ليطعن أخاه. ربما لم يفهم الأغبياء بعد بأن دمك الذي لم يسل، وقلبك الذي لم يتوقف عن الخفقان وآخر سروال لبسته، كان مهترئاً بالمناسبة، وكوفيتك الخفّاقة على كل موت ينال من ضلوعنا.. لم يفهم الأغبياء بعد بأن كل ذلك لم يكن حلماً.. ووحدها الثوابت، يا شيخنا، تمزّق اختلافاتنا، ووحدها تردّنا نحو الشجرة الأولى والبيعة الأولى، وما عدا ذلك... فالجحيم.
* كاتب فلسطيني