أسعد أبو خليل *
على الرغم من ارتفاع الأصوات والصيحات في لبنان، وعلى الرغم من ازدحام الخطاب والسجال (حتى لا نقول الردح) السياسي، فإنّ موضوعاً واحداً يبقى في منأى عن الخصام وعن الحوارات والوساطات بين الموالاة والمعارضة ـــــ معارضة ماذا، لا ندري، إذ إنّ المعارضة تبدو محصورة بموضوع ذلك «الثلث» العجائبي. والموضوع البعيد عن اهتمام الطرفين (وعن اهتمام وفود الرجل الأبيض المتوالية على لبنان) يكمن في هدف تحقيق العدل الاجتماعي، إذ إنّنا لا نتحدّث عن المساواة، فهي من بقايا اللغة الخشبية التي يخجل منها الجميع، قوميّين ويساريّين وليبراليّين. وموضوع العدل الاجتماعي يخضع لتغيير وقولبة في عهد الحريري (الأب وذلك الابن الموهوب الذي يقود أكبر كتلة سياسية لا لثروة أو جاه مُشترى، بل بسبب حضوره وكفاءته. نتساءل: ماذا يحدث لزعامة سعد الحريري لو أنّه خسر لسبب ما ثروته؟ هل تستمرّ جماهير الطريق الجديدة وطرابلس والبقاع في الهتاف له؟).

التجربة الشهابيّة

موضوع العدل الاجتماعي موضوع سياسي في لبنان، حتى وإن لم يعتنق المرء التحليل الماركسي. وقد تداخل في صلب الصراع الطائفي لارتباط الشحن الطائفي بالطبقي (أو العكس) في فترة ما قبل الحرب الأهلية، من دون الدخول في عملية تقرير أهليّة الحصول على جائزة أكثر الطوائف حرماناً. وقد وعى فؤاد شهاب ذو الوعي والتحليل الطائفيين ارتباط التوتر الطائفي بمسألة العدل الاجتماعي، عندما تصدى، للمرة الأولى بعد الاستقلال، لمسائل التنمية الاجتماعية ولتوسيع نطاق خدمات الدولة الاجتماعية، لكن التجربة كانت محدودة الفعالية لأنها كانت محكومة بتحالفات الحكم الطائفية والسياسية. ففؤاد شهاب قدّر أنّ حكمه يستقيم أكثر لو أنه دفع بعجلة قدر قليل من العدل الاجتماعي لحماية الدولة، ولم تكن صدفة أنه فعل ذلك بعد الانقلاب القومي (هل من يتذكر أن محمد البعلبكي واجه جلّادي المكتب الثاني آنذاك بكثير من الشجاعة، وها هو اليوم يتحول الى أداة حريرية خانعةوكانت الدولة الرأسمالية الحديثة في الغرب قد قدمت سلّات من الخدمات الاجتماعية، وذلك ليس عطفاً على الفقراء، بل لحماية الدولة من غضب الفقراء والعمال وثوراتهم المتصاعدة في القرن التاسع عشر. وحتى أميركا، قبل ما يسمّى «الصفقة الجديدة» التي ترمز الى البرامج الاجتماعية التي أحدثها حكم روزفلت، كانت تعجّ بالشيوعيّين وحتى الفوضويّين في مدنها الصناعية الكبرى (طبعاً جاءت الردة في العهد المكارثي، والمكارثية، أي محاربة الشيوعية، جمعت النقيضين في الحرب العربية الباردة، ونعني بها حكم عبد الناصر والحكم السعودي اللذين أظهرا كل بطريقته خوفاً كبيراً من تنامي الحركة الشيوعية العربية. قلة تعلم اليوم أن الحزب الشيوعي العراقي كان في مرحلة غابرة أقوى من كل المراجع الدينية في جنوب العراق).
طبعاً، قدم فؤاد شهاب إصلاحاته على الطريقة اللبنانية بكثير من العقد التي تتحكم بالثقافة السياسية والشعبية (كم أضرت بها جريدة النهار، لكن هذا موضوع آخر يحتاج إلى مقالة أخرى)، واستعان بالرجل الأبيض، فاستقدم بعثة «إرفد». فشهادة الرجل الأبيض مطلوبة دوماً في وطن البلّوط (وكان شهاب شديد الإعجاب بالرجل الأبيض، وكان ينظر الى أبناء جلدته بكثير من الاحتقار، ويستبطن إعجاباً شديداً بـ«الحضارة» الغربية)، لكن الإصلاحات تعثرت وانشغلت الدولة اللبنانية بهمّ قمع الثورة الفلسطينية وبدعم ميليشيات اليمين الطائفي. وانصرف الحكم الشهابي الى أمر تصفية الصراعات بين الزعامات المارونية التي حمّلها ريمون إدة أوزار الحروب الأهلية في لبنان.

الزمن الجميل

لكن لبنان ما قبل الحرب الأهلية كان مشغولاً بهمّ العدل الاجتماعي والقضايا النقابية. كان هذا الزمن النقابي الجميل ـــــ وهو غير الزمن البورجوازي الجميل الذي يحنّ إليه عالم الاجتماع سمير خلف، عندما تحوّل الممثّل شوشو من التهريج الصرف الى إطلاق صرخة «آخ يا بلدنا». لمّا تكن الدولة قد اهتدت الى وسيلة تنصيب عبد الله الأمين أو أسعد حردان وزيرين للعمل لقمع العمّال، ولمّا تكن الدولة قد وقعت أسيرة آل الحريري المصرّين على تطبيق أكثر النماذج وحشية من الرأسمالية (والحريرية هي أدنى مراحل الرأسمالية، خلقاً وتطبيقاً). وكانت القيادات النقابية ذات استقلالية نسبية، والثقافة الشعبية في لبنان لمّا تكن قد اهتدت الى حكمة محمد علي الجوزو والى الليبرالية الوهابية (ولمّا يكن الياس عطا الله قد تحول الى يساري سابق).
وكانت الحركة الوطنية قبل الحرب الأهلية قد حملت هموم الفقراء والمعذبين، وكان هذا سبب نجاحها في اختراق الطوائف (لحسن حظ الحركة، لمّا تكن قد وقعت تحت رئاسة وليد جنبلاط)، لكن الحركة سرعان ما نسيت الهموم الطبقية أثناء الحرب، وتحول الكثير من زعمائها بفعل المال المتدفق من الأنظمة الداعمة ومن الخوّات إلى أثرياء حرب، مثلهم مثل أثرياء أي حرب. ولم تنجح الحركة في إقامة شبكة من الخدمات الاجتماعية (كما فعلت منظمة التحرير، وإن بفساد مستشرٍ أتقن إدارته ياسر عرفات)، ما دفع بالكثيرين الى الانضواء في صفوف منظمات وأحزاب (دكاكين للأنظمة عموماً) بهدف الارتزاق، وهذا ما عناه الشعار الساخر عن «ثورة حتى آخر الشهر». وإن فتح أبواب الحركة الوطنية أمام أحزاب طائفية أضعف الهمّ الطبقي وهمّشه. وما دام الحديث اليوم هو عن المحاور وعن التحالفات، نستطيع القول إن أحزاب اليسار الشيوعي الإصلاحي (الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي) ارتأت أن مصلحة الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة تفوق مصلحة النضال الطبقي والوطني (في لبنان وفي العالم العربي ـــــ وفي هذا العامل يكمن تعريف مبسّط للشيوعية البكداشية ـــــ وكان الراحل جورج حاوي تلميذاً نجيباً في مدرستها)، وإن الأحزاب القومية في إطار الحركة الوطنية كانت أكثر حرصاً على الترويج لأنظمتها الراعية من حرصها على الدفاع عن الفقراء.

المرحلة الحريريّة

لكن العدل الاجتماعي غُيّب رسمياً في المرحلة الحريرية على أثر «إصلاحات الطائف» التي أقرّت رسمياً بحقوق الطوائف لا بحقوق الطبقات. وتولى رفيق الحريري رئاسة مجلس الوزراء بعدما التزم الشأن الاقتصادي ـــــ الاجتماعي من قبل النظام السوري الذي نصّبه على صدور اللبنانيين. وفي الحريرية يغيب دور الدولة بالكامل عن شأن الخدمات الاجتماعية. ألم يقترح رفيق الحريري مرّة إلغاء الضرائب بالكامل (يومئذ ذهب السنيورة الى جوزف سماحة يشكو له أن رفيق الحريري فقد صوابه). فالسنيورة في علاقته بالحريري مماثلٌ لكيسنجر في علاقته بنيكسون (يُراجع في هذا الصدد الكتاب الجديد للمؤرخ الأميركي روبرت داليك «كيسنجر ونيكسون»)، إذ كان ينتقد رفيقَ الحريري أمام الصحافيين عندما يلتقيهم وراء الجدران، وذلك لتحسين صورته هو، ولنفي مسؤوليته عن تلك السياسات الجائرة في حق الفقراء وذوي الدخل المحدود، وللظهور بمظهر الحكيم المُرشد. الفقير، بالنسبة إلى رفيق الحريري، لم يكن همّاً للدولة أو للحكومة (على عكس دولة الثورة الفرنسية التي افتخرت حتى ببرامج إطعام الأطفال في المدارس. وأيضاً في ظل رأسمالية رونالد ريغان المتوحشة، قامت القيامة عندما حاول أن يغيّر من مقومات وجبة الغداء في المدارس الحكومية). الفقير، بالنسبة إلى الحريري، كان موضوع استغلال في المواسم الانتخابية، وسخرية في جريدته اليومية التي تجد ذروة الفكاهة في انتحار خادمات سريلانكيات. لم نقل إنه أمعن عن قصد في إفقار الفقير بهدف استغلاله في الانتخابات وفي حملات التحريض الطائفي والمذهبي التي أتقنها أكثر من غيره.
واستطاع الحريري أن يمعن في إفقار الفقير وفي تقليص الخدمات الاجتماعية للدولة مدعوماً من النظام السوري الذي عهد إليه في موضوع الاقتصاد، وخصوصاً أنه مثله مثل حيتان المال في لبنان، وبعضهم بارز في 14 آذار، مثل شريك الأمير تركي، حرص على رشوة أقطاب في الحكم والاستخبارات في سوريا، باستثناء العفيف عبد الحليم خدام الذي يناضل من أجل الديموقراطية في سوريا والذي كانت علاقته مع رفيق الحريري منزّهة عن الهوى أو الغرض ـــــ إنها الصداقة.
والمشين أن حزبين في ما كان يسمى الحركة الوطنية، هما حزب البعث (من الدقة القول إن حزب البعث في جناحه الموالي للعراق كان الممثل الحقيقي للبعث في الحركة الوطنية، لأن الحزب الموالي لسوريا، وهو كان دائماً الأضعف، كان قد طُرد شرّ طردة بعد تدخّل الجيش السوري في عام 1976 الى جانب ميليشيات اليمين الطائفي المتحالف مع إسرائيل آنذاك) والحزب القومي، أدّيا دور المؤدب الفظّ للحركة العمالية لتسهيل مهمة رفيق الحريري في الحكم. وشهدت فترة تنصيب الحريري ظهور حركة عمالية غير طائفية كان لها، لو كُتب لها النجاح، أن تؤدي الى ترسيخ نمط سياسي لاطائفي، وأن تحدّ من جشع الحكومات التي أثقلت كواهل الناس بالدين الذي كان ينتظر ربيع الحريري لتسديده.
وحرص النظام السوري ومعه حليف استخباراته، رفيق الحريري، على وضع وزارة العمل في يد ممثل لواحد من الحزبين المذكورين ــــــ وتحول حزب ذو تاريخ عريق في العلمانية والشجاعة السياسية ـــــ اختلفتَ معه أو اتفقتَ ــــــ الى مجرد تابع للاستخبارات السورية في لبنان ـــــ وذلك لترهيب الحركة العمالية وقمعها. واستعان رفيق الحريري بقومي عربي سابق (ويساري سابق في ما بعد)، محمد كشلي، لضرب الحركة العمالية وإسكاتها. وتفرّغ كشلي للمهمة بنشاط. وأصبح الياس أبو رزق الضحية الكبرى (والمنسية) لحقبة سيطرة النظام السوري. نُصّب غسان غصن أداةً على رأس قيادة الحركة العمالية، وهو يتذكر العمال بأمر، وينساهم بأمر. توافقت الرئاسات الثلاث في الدولة، كدنا نقول الآفات الثلاث في الدولة، على الأمر.

الحلف «الفاوستي»

وفي تلك الحقبة بالذات، عقد حزب الله حلفاً «فاوستياً» مع رفيق الحريري يتولى على أساسه رفيق الحريري ملف الاقتصاد بالكامل، فيما يتولى حزب الله همّ المقاومة والتحرير. والاتفاق كان مختلاً في أصله وأساسه. فرفيق الحريري، والنظام السوري من ورائه، أراد أن يحصر المقاومة طائفياً. كان على الحزب، غير العلماني، أن يصر لأسباب وطنية وعملانية ومبدئية ـــــ بالإضافة الى أسباب تتعلق بمصلحته على الساحة اللبنانية ـــــ على توسيع المقاومة لتضم كل من يتطوع (يحاولون اليوم أن يزعموا أن «الكل كان مع المقاومة» وكأننا نسينا افتتاحيات جبران تويني في التسعينيات، حتى لا نتحدث عن أحاديثه غير المنشورة مع صحافيين وصحافيات غربيين). وقبول حزب الله بتولّي رفيق الحريري همّ الاقتصاد كان قاتلاً: فهو بذلك استنكف عن خوض معركة تحرير الإنسان المتلازمة مع معركة تحرير الأرض، والإنسان أثمن من الأرض: فشعب فلسطين لم يزل باحتلال فلسطين، على الرغم من محاولات الصهيونية ومن عاونها من العرب. صحيح أن حزب الله ليس حزباً يسارياً، وصحيح أن الحزب (مثله مثل الإخوان المسلمين في مصر) لا يعتنق مفهوماً اشتراكياً لدور الدولة في السوق. على العكس من ذلك، ففي برامج العون الخاصة، حتى وإن كانت حسنة النية (على العكس من مؤسسات الحريري المُسيّسة منذ إنشائها)، إعفاء لدور الدولة في إعانة الفقراء والمعوزين. والحزب لا يعترض على الخصخصة، بل على تفاصيلها، لا بل إنه أعان حكومة السنيورة في مشروع خصخصة الكهرباء، قبل أن ينسحب مطالباً بذلك الثلث المعطل. ولا ننسى أن الاتفاق الفاوستي بين الحريري وحزب الله كان مختلاً أيضاً لأن الحريري أخلّ بشروطه منذ البداية، فسعى لنزع سلاح المقاومة وعمل على التوصل الى القرار 1559 بعدما أُبعد أزلامه (خدام وكنعان والشهابي) عن سلطة القرار في دمشق. وحتى حكومة سليم الحص الأخيرة لم تعترض هي الأخرى على مبدأ الخصخصة، وإن حاولت أن تحدّ من جشع ووحشية النموذج الحريري في الرأسمالية اللاوطنية.
وليس حزب الله وحده هو المسؤول، ولكنه كان الأفعل على الأرض. وقد صمت الحزب طوال تلك السنوات التي كان رفيق الحريري يفرض فيها نموذجاً متوحّشاً للرأسمالية. كان الحزب يفترض ساذجاً أنّ الاقتصاد منفصل عن السياسة وعن مقاومة اسرائيل. أين كان الحزب عندما كان رفيق الحريري يسعى جاهداً لإدخال لبنان في منظمة التجارة العالمية التي تتناقض مع حق العرب في مقاطعة اسرائيل (حتى المقاطعة الاقتصادية، وهي أدنى أشكال المقاومة وأكثرها سلمية، ممنوعة عن العرب في الوقت الذي تفرض فيه الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية على أكثر من مئة دولة في العالم، من عقوبات بشأن الموز وتصديره إلى بريطانيا، الى حصار اقتصادي خانق على كوبا. لكن يحق للرجل الأبيض ما لا يحق للعربي). لهذا كان الحريري يعدّ العدّة، وبموافقة حلفائه في النظام السوري واستخباراته، لسلام وتطبيع مع اسرائيل (كنا نودّ أن يُضمّن عمر أميرلاي بعضاً من آراء الحريري في هذا الموضوع في مقابلات مسجلة معه بُثّت على شاشة المستقبل بعد اغتيال الحريري في فيلمه «الوثائقي» الذي لا يختلف عن أفلام كوريّة شماليّة عن كيم إيل سونغ في ترويجها السياسي المجاني).
وعندما توثّق التحالف بين 14 آذار والولايات المتحدة بعد اغتيال الحريري (وإسرائيل طبعاً غائبة كلياً عن هذا التحالف لأن إسرائيل بتعريف ثوّار الأرز لا تتدخّل في شؤون جيرانها، ولأنّ ثوّار الأرز يؤمنون بأنّ السياسة الأميركية في الشرق الأوسط لا تأخذ مصالح إسرائيل في عين الاعتبار أبداً لأنها مصابة بهاجس إسعاد سعد الحريري)، ازداد الإصرار الحريري على فرض المزيد من الوحشية في النمط الاقتصادي. ونلاحظ أن شركات الإعلان الخاصة في لبنان، بعضها يساعد الاحتلال الأميركي في العراق في الترويج لاحتلاله باللغة العربية، تساهم، بثمن باهظ، في الترويج لسياسات الحكومة، مثلما تفتّقت عبقرية «ساتشي وساتشي» عن شال العلم اللبناني الذي يرتديه بأناقة لافتة وليد جنبلاط ونائبه من عاليه الذي يأمل من البيك أن يتصدق عليه بإيماءة، ولو من بعيد. وهي الشركة نفسها التي قامت بحملة «الأردن أولاً» (وإسرائيل ثانياً) قبل أن تنتقل الى لبنان.
ونلاحظ أن حكومة السنيورة تتذاكى في عباراتها. فرفع الدعم عن الرغيف بات يُسمّى «تحرير الرغيف» (كم تثقل أعباء التحرير كاهل فؤاد السنيورة، فهو يحرّر الرغيف في الوقت الذي ينهمك فيه أيضاً بتحرير شبعا وفلسطين واللواء السليب)، والخصخصة تحولت الى «إصلاح اقتصادي». والخصخصة في لبنان (راجعوا مسلك وزارة الاتصالات التي يتابع مسارها أوّلاً بأول السفير الأميركي في لبنان وببراءة شديدة) هي على غرار الخصخصة في السعودية وفي قطر وفي غيرهما من مشيخات وممالك النفط حيث تبيع العائلة المالكة حصّة الدولة الى أفراد في العائلة، فنعم الخصخصة. وبرامج الحكومة الاقتصادية في الحقبة الحريرية توضع بالإنكليزية في مكاتب البنك الدولي، وتأتي الى لبنان وتُتَرجم الى العربية في البيانات الوزارية (هل لا يزال السنيورة ونايلة معوض ملتزمين بالبيان الوزاري في ما يتعلق بالمقاومة، أم كلام البيان يمحوه السفير الأميركي برفع سماعة الهاتف، نتساءل؟).

اليسار في خبر كان

لكن من سيحمل همّ العدل الاجتماعي وشكاوى الفقراء؟ فاليسار التقليدي (الحزب الشيوعي) لم ينهض من الارتباك الذي لحقه من جراء انهيار الاتحاد السوفياتي، وهو يكتفي في مهرجاناته برفع صور غيفارا، إذ إنه يخجل من صور كارل ماركس. واليساري السابق مشغول بهموم أخرى: فهو مصاب بهاجس شر الممانعة، وإن لاحظنا أنه لم يكتب كلمة واحدة ضدها أثناء وجود الجيش السوري في لبنان، فنعم الشجاعة والصدقية الصحافية. ويساري سابق آخر يقبل بفسطاطي بن لادن وبوش، وهو يعتبر بوش وسعد الحريري ومحمد علي الجوزو وأنطوان زهرا في خندق تراث الفارابي (ويحشر ابن ميمون في هذا الخندق إذ إن صاحبكم لم يقرأ ما كتب ابن ميمون في غير اليهودي، لكنه حريص على الحساسية نحو اليهود، لعل الرجل الأبيض يلاحظ فيبتسم ابتسامة الرضا)، وكل من عادى إسرائيل، برأيهم، هو ظلامي. وقومي عربي آخر يحاول أن يقنعك أنه يتوسّم العبقرية في شخصية سعد الحريري (أو نادر الحريري، نسيتُ). ويساري آخر ينفي علاقات التحالف بين سياسيين لبنانيين واسرائيل، ويعزوها الى مرجع واحد (هنا، لا نلوم اليساري السابق إذا كان محدوداً بيبلوغرافياً، فعدد المراجع التي تحدثت عن علاقات لبنانية مع اسرائيل (وفي فترة ما قبل الحرب) تفوق العشرين بالعبرية والإنكليزية، لكن لم يصله منها إلا مرجع واحد، وهو الوحيد الذي تُرجم الى العربية). ويساري آخر يدافع عن صمته عن الحكم السعودي، ويقول إن نفوذ النظام السوري في الإعلام العربي يفوق النفوذ السعودي. هي الصدقية، مرة أخرى. أما عميد اليساريين العرب السابقين، فيدعو كتّاب جريدة «الأخبار» الى التوقف عن انتقاد سياسيّي 14 آذار لأن بعضهم مهدّد، ولأن الانتقاد يتقاطع، برأيه وبرأي سعد الحريري، مع القتل. هل يعني هذا، قياساً، أنّه كان من الخطأ انتقاد أنطوان لحد لأنه تعرض لأكثر من محاولة اغتيال؟ أما جريدة «النهار» فمشغولة كعادتها بأمور العبقرية اللبنانية حول العالم، وهجوم الشركات الغربية الكبرى على لبنان تصبح في تغطية الإعلام الحريري دليلاً على أهمية لبنان العالمية. لكن الوضع ليس سوداوياً بالمطلق. فإميل لحود قلّد الشيخة فريحة آل الصباح وسام الأرز. فليرتعش «أرز الرب».
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا

(موقعه على الإنترنت: www.angryarab.blogspot.com)