رامي خريس
القمع الذي جرى في غزّة قبل أيّام لأنصار «فتح» الذين أحيوا الذكرى الثالثة لرحيل ياسر عرفات كان عنيفاً للغاية، ومؤلماً على المستوى الشخصي والجماعي، إضافةً لكونه (كما في كلّ قمع فلسطيني ـــــ فلسطيني)، يبقى ملتبساً. ومكمن الالتباس فيه أنّه يجري في سجن كبير تحت رقابة الجلاّد الإسرائيلي، وأنّه يتمّ على أيدي شبّان عايشوا قمع «إسرائيل» في السجون، وعرفوا ماذا يعني أن تترك السلطة الجلاّد وَشْمَها المؤلم داخل الروح، بحيث تجعلها أكثر قدرة على استيعاب «الإنسان» ووجعه واحتجاجه. قال الدكتور عزمي بشارة في إحدى حلقات زاويته «فصل المقال» الأسبوعية «إنّ هناك حركات مقاومة تعبّئ وتجنّد وتناضل في مقاومة الاحتلال، من دون برنامج مشتق من قيم تحررية».
«حماس» المقاوِمة تكرّس بممارستها السلطوية اليوم هذا المفهوم، أي لجهة كونها حركة تستفيد من اسمها وصِيتها كحركة مقاومة لتنفيذ برنامجها الذي يقف على النقيض من «قيم المقاومة»، إذ لا يُمكن بطبيعة الحال فهم إمكان الجمع بين شعار «الاعتماد على الجماهير» وقيادتها للنصر المحتّم على العدو كما هو معلن في أي برنامج مقاومة، وبين «قمع الجماهير».
كما أنّه لا يمكن فهم هذه الرغبة المحمومة لدى «حماس» لاستنساخ نموذج «فتح» السابق الذي اعتمدت في دعايتها للفوز بالانتخابات على نقده بشكل كبير. هذا الافتراق بين الشكل والمضمون الذي تمثله «حماس» يحمل في جوهره نتائج سياسية، أبعد ممّا تعتقد الحركة الإسلامية. بفعل التوازن الحاصل في الساحة الفلسطينية بين الفصيلين الكبيرين، وعدم وجود حوامل جماهيرية مغايرة، برؤى وبرامج مختلفة، يعني «القمع» الحمساوي ببساطة، زيادة في رصيد فريق التسوية الذي تقول «حماس» إنّها تحارب مشروعه، ومن المؤسف أنّها لم تستطع أن تصل إلى هذه الحقيقة المفرطة في بداهتها، وهي أنّ كل «ضربة هراوة» ضدّ متظاهر، أو جلدة بالسوط لمعتقل في زنزانة تمارسها «حماس» في غزّة، إضافةً لكونه دافع نحو مزيد من الإحباط والشعور بعدم الجدوى لدى الجمهور الفلسطيني (وهذا أيضاً ضدّ قيم المقاومة التي تسعى إلى تعليم الجماهير تربية الأمل)، يعني أيضاً زيادة هامش التحرّك لدى الفريق الذاهب إلى التسوية، والذي لا ينسى هو الآخر أن يعير «المسائل الداخلية» التي فشلت «حماس» في حلّها اهتماماً بالغاً فيقدّم برنامجاً أكثر انفتاحاً من واقع الدعم الغربي الذي يحظى به، فيبدو مشروع متكامل كهذا أكثر ألقاً واتساقاً.
في المدى المنظور، تتضاءل فرص الحوار لأن الجرح أصبح أكثر غوراً، ومن غير المتوقَّع أن تُجري الحركة الإسلامية الفلسطينية مراجعة نقدية تجعلها أكثر انفتاحاً على الداخل الفلسطيني، وإن كان هذا ضرورياً لها اليوم في ظل المأزق الذي تعيشه. وهذا يعني بالمحصلة عودة إلى الوراء، أي لإعادة الاعتبار إلى مشروع «أوسلو»، الذي سيحظى إضافةً إلى الدعم الدولي الذي برز بقوّة بعد أحداث حزيران الماضية، باحتضان شعبي من قطاعات «فتح»، وقطاعات شعبية أخرى غير مسيّسة استعدتها «حماس»، وقطاعات رأس المال الفلسطيني التي خسرت كل ما لديها بفعل الحصار وخسارة أسواق التصدير. وهكذا تكون المهمّة صعبة للذي سيتصدّى لاشتقاق برنامج يتجاوز نهج «حماس» في المعارضة والسلطة، ونهج التسوية بمساوئه السياسية، بحيث يكون برنامجه برنامج مقاومة وتحرّر في آن معاً.