كميل داغر *
في المجلَّد الضخم الذي وضعه العلّامة الدستوري، إدمون رباط، باللغة الفرنسية، «الدستور اللبناني، البدايات والنصوص والشروحط، في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، وبالتالي قبل قيام دستور الطائف بسنوات قليلة، أعطى صورة عن موقع المُمسك بالرئاسة الأولى في النظام اللبناني، مبيِّناً كيف أنّه كان يتجسّد في شخصه «ليس فقط رمز الدولة، بل الإرادة العليا، الثابتة والفاعلة، التي تحكمها وتحرّك نشاطاتها المتعدّدة». ويشرح ربّاط أنّ «هذه القدرة المطلقة، التي وُضعت أصولها في الدستور، تتجلّى في الظاهرة المميِّزة لما جرت العادة على تسميته العهد، والتي زادت على حساب الحكومة، من حدّة اللامساواة في ثنائية الصلاحيات المسنَدة إلى كلٍّ من فرعي السلطة التنفيذية».
ويضيف أستاذنا الكبير الراحل ـــــ الذي تتلمذ على يده رهط واسع من رجال القانون اللبنانيّين ـــــ لإظهار مدى أرجحية ذلك الموقع، أنّ «الوزراء وكبار الموظّفين، وفي الغالب النوابَ الساعين وراء حظوته، لا يمتنعون عن استخدام مصطلح «سيد العهد»، في معرض الإشارة إلى الرئيس. ونادراً ما يهملون الإشادة بحسناته، وعزو كلّ المزايا إليه في التصريحات التي لا تُحصَى التي تتكفّل الصحافة اليومية بترجيع صداها. وفي كلٍّ من النشرات الإخبارية للإذاعة اللبنانية الرسميّة، يبدأ المذيع دائماً بالعرض الدقيق لنشاطات الرئيس، مثل تقبّل رسائل الاعتماد، وإرسال برقيات التهنئة، والكلمات التي بات معتاداً أن يستهلّ بها الجلسات الأسبوعية لمجلس الوزراء المنعقد برئاسته طبعاً، وجلسات العمل التي يدعو إلى انعقادها في القصر الرئاسي، والتي يتمّ خلالها مناقشة مشاريع القوانين، والخطط المطلوب وضعها، والموازنات، وقضايا الري، والطرقات، ومسائل الطاقة والكهرباء، وذلك تحت إشرافه وبحضور الموظّفين والاختصاصيّين، وأحياناً في غياب الوزير المعني، وفي معظم الأحيان، بعيداً عن رئيس الحكومة وحتّى بغير علم منه. وهذا باختصار هو التكافل (symbiose) الكامل الذي يتحقّق على حساب التوزيع الرسمي للصلاحيات، من جانب الدستور، بين السلطات العامّة والرئيس. (ص 294 وص 295).
بيد أنّ هذه الصورة تغيّرت كثيراً، بعد التعديلات التي جرى إدخالها على الدستور، بنتيجة اتفاق الطائف، وتراجعت صلاحيات «سيّد العهد» بشكل ذريع. أكثر من ذلك، جاء الانشطار السياسي العميق، الذي أعقب التمديد للرئيس لحود بضغط من دمشق، ومن ثمّ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، وما تلاه من إنهاءٍ لوصاية النظام السوري على البلد، ليحدث تأثيراً سلبياً كبيراً في دور الرئاسة الأولى، ولا سيما بنتيجة المقاطعة الفعلية للقصر الجمهوري من جانب جزء أساسي من الشريحة السياسية، المشاركة في الحكم.
على الرغم من ذلك، تبقى هنالك أهمية قصوى للصلاحيات الباقية لموقع رئيس الجمهورية؛ وهي صلاحيات تزداد أهميتها بقدر ما يتمكن الشخص الذي سيحتلّ هذا الموقع من تفعيلها، سواء بسبب ميزاته الشخصية المحتمَلة، أو الظروف التي قد تنشأ خلال ولايته، على شتّى المستويات، الدولية والإقليمية والمحلية، أو التحالفات التي يمكن أن يستند إليها، أو يستفيد منها.
وكلُّ ذلك يفسِّر الصراع الحالي المحتدم بين شتى القوى السياسية المحلية، من أجل التحكّم بسيرورة انتخاب الرئيس القادم، وبالتالي فرض مجيء رئيس يمثّل تطلّعاتها ومصالحها، ويخدم البرنامج الذي يأخذ تلك التطلّعات والمصالح بالحسبان. وهو صراع مفتوح على كلّ الاحتمالات، ولا سيّما أنّه يتلازم مع صراع القوى الإقليمية والدولية على منطقةٍ (هي ما تطلق عليه واشنطن تسمية الشرق الأوسط الأكبر)، من الواضح أن ثرواتها النفطية، من جهة، وموقعها الاستراتيجي الدولي، من جهةٍ أخرى، قد يدفعان بالمستفيد الأكبر من السيطرة عليها، عنينا الولايات المتحدة الأميركية، إلى تفجير حروب جديدة قد تتّخذ لاحقاً طابعاً كارثياً، وذلك لأجل الإبقاء على تلك السيطرة، وحتى لترسيخها وتوسيعها، مستعينة لهذه الغاية بالدور الذي تضطلع به ضمن هذه الصورة دولة إسرائيل العدوانية، والمدجَّجة بأحدث الأسلحة الأميركية.
وبالطبع، على الرغم من أن لبنان لا يعوم على آبار الطاقة، ومن أن إمكاناته الاقتصادية متواضعة جداً، فإنه يتمتّع بميزات جيوسياسية خاصّة، ولا سيما من خلال موقعه في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بحيث يمكن أن يؤدي دوراً شديد الأهمية في إعاقة التطلّعات الإمبراطورية الأميركية،مثاما أظهرت ذلك حرب تموز 2006.

موقع الرئاسة في المشروع الأميركي

ليس الاهتمام الأميركي بهذا الموقع جديداً، بل هو يعود إلى الخمسينيات من القرن الماضي، حين تراجع الدوران البريطاني والفرنسي في لبنان، مثل الحال في أماكن كثيرة أخرى عبر العالم، لمصلحة الدور الأميركي، بحيث جاءت انتخابات الرئاسة في أواخر صيف عام 1958، وبعد نزول الـ«مارينز» في السواحل اللبنانية إثر الحرب الأهلية المصغَّرة التي اندلعت آنذاك، تعبيراً عن توافق خارجي، قبل كل شيء، بين واشنطن، من جهة، والجمهورية العربية المتحدة بقيادة عبد الناصر، من جهة أخرى. ومذّاك، بات التأثير الأميركي ملموساً، في شتّى الانتخابات الرئاسية اللبنانية، وصولاً إلى تلك المفترَض أن تتّم في الأيام القليلة القادمة.
ومن الواضح أن الانتخابات الرئاسية، هذه المرّة، تكتسب أهمية مميّزة جداً، بالنسبة للإدارة الأميركية. وكانت هذه الأخيرة قد سعت، عن طريق القرار الدولي 1559، الصادر في عام 2004، إلى إلغاء التمديد للرئيس الحالي، تمهيداً للمجيء برئيس جديد ينفّذ البنود الأخرى للقرار المذكور، وفي مقدّمتها نزع سلاح حزب الله. وقد أسهمت بصورة أساسية في فرض مقاطعة دولية وإقليمية ومحلية على الرئيس لحود، من دون أن تنجح في إسقاطه. بيد أنّها تسعى، بكلّ ما تملكه من إمكانات، لمنع أي تفاهم بين القوى المتصارعة اللبنانية على مجيء رئيس جديد يعبّر عن تسوية في ما بينها. وهي، لأجل ذلك، لا زالت تشجّع التيار الموالي لها، المتمثّل بتحالف 14 آذار، على تجاوز القيود الدستورية القائلة بضرورة الالتزام بنصاب ثلثي أعضاء المجلس لأجل انعقاد جلسة انتخاب الرئيس ـــــ وهو ما يعجز عن توفيره في غياب اتفاق مع المعارضة ـــــ وبالتالي الاكتفاء بنصاب النصف زائداً واحداً، المتعارض مع الدستور، والذي قد يؤدّي اعتماده إلى انقسام السلطة، وظهور رئيس للجمهورية وحكومتين. علماً أن ذلك قد يكون مدخلاً لحرب أهلية طاحنة.
وبالطبع، فإن هذا الموقف من جانب واشنطن لا يتحرّك في الفراغ، بل هو يعتمد على وجود قوى سياسية مؤثّرة داخل حركة 14 آذار تتبنّى الموقف المشار إليه، وسبق أن عبّرت عن رفضها القاطع لمبادرة رئيس المجلس النيابي، نبيه بري، التي كان قد أعلن عنها في 31 آب الماضي، وتقضي بإقرار الجميع بنصاب الثلثين لجلسة الاقتراع، وبانتخاب رئيس توافقي يرضى عنه طرفا المعارضة والموالاة في الوقت ذاته.
والأهم بين هذه القوى «القوّات اللبنانية»، وكتلة «اللقاء الديموقراطي» اللتان تراهنان في موقفهما هذا على ما يجري الحديث عنه بقوّة في الفترة الأخيرة عن احتمال نشوب حرب إقليمية دولية تستهدف فيها الولايات المتحدة وإسرائيل كلاًّ من إيران وحليفيها سوريا وحزب الله، في الأشهر القليلة القادمة، انطلاقاً بشكل خاص من برنامج إيران لتخصيب الأورانيوم واتهامها بالتحضير لإنتاج السلاح النووي. وهي حرب يعتقدان أنها ستؤدّي إلى هزيمة المعسكر الأخير.
في المقابل، فإن الطرف الأهم في تحالف 14 آذار، المتمثّل في تيار المستقبل، وإن كان غير بعيد في مشاعره وخياراته العميقة عن حليفيه، الأكثر تطرّفاً، فهو مضطرّ لأن يأخذ بالحسبان مواقف الحكومة السعودية، التي ينشَدُّ إليها بالولاء ويحظى منها بالدعم الأساسي، ولا سيما أن الملك السعودي، عبد الله بن عبد العزيز، طلب بوضوح وصراحة إلى رئيس الحكومة اللبنانية، المشكَّك بشرعيتها، فؤاد السنيورة، خلال زيارة هذا الأخير للمملكة، في أيلول الماضي، التجاوب مع مبادرة رئيس المجلس النيابي اللبناني، وتشجيع التوافق على رئيس جديد للجمهورية. وهو أمر مردُّه إلى معرفة الجناح الأقل التحاقاً بالمخطّطات الأميركية داخل العائلة السعودية، والذي يمثّله الملك ـــــ بمقابل الجناح الذي يقوده ولي العهد ولا سيما ابنه بندر بن سلطان، الملتحق كلياً بتلك المخطّطات ـــــ بحقيقة المنعطف الذي يقف عنده لبنان، وبأن انفجار الوضع المحتمل، في الظروف الراهنة بوجه أخص، قد تكون له ارتدادات سلبية كبرى على كل المنطقة، ومن ضمنها المملكة بالذات.
في كلّ حال، إذا كان وضع البلد كلّه يقف عند منعطف بهذه الخطورة، فإنّ القوى التي تقف في وجه المشروع الأميركي، وفي الوقت عينه بمواجهة الأدوات المحلية لهذا المشروع ممن لا يجد بعضهم غضاضة في إشهار كونهم «في القلب منه»، كما اعترف بذلك قبل أسابيع قليلة السيد وليد جنبلاط، هذه القوى تمتلك أسلحة كافية للتصدّي بنجاح، سواء للمشروع المشار إليه أو لتلك الأدوات.
بيد أنّ نجاح هذا التصدي مشروط بمعرفتها كيف تستخدم «أسلحتها»، ومن ضمنها الأدوات القانونية، من دون تقديم تنازلات جدية، أو الوقوع في فخ المناورات الدولية والإقليمية الكثيرة التي يتم اللجوء إليها منذ مدة، وتتكثّف الآن، تحت عباءة المبادرة الفرنسية المغطّاة أميركياً، والمنسَّقة مع الكرسي الرسولي، على ما يبدو، كما يدل على ذلك الدور المتضخم المعطى في الوقت الراهن للبطريرك الماروني في تقرير مصير الرئاسة الأولى.

دور بكركي وخدعة التسمية

لقد كان بين ما أنتجته الحرب اللبنانية ـــــ بعدما كان صعود النضال الوطني والاجتماعي الكبير الذي سبقها قد طرح على جدول الأعمال مسألة علمنة الدولة والمجتمع، ولو تدريجياً ـــــ تعميق العصبية الطائفية إلى حدود مَرَضية، وتعزيز البنية المذهبية للبلد ونظامه السياسي. وهو الأمر الذي عبَّر عن نفسه بامتياز ليس فقط في اتفاق الطائف بل أيضاً وبوجه أخص في طريقة وضع هذا الاتفاق موضع التطبيق.
وقد كان من تجليات هذا الواقع تراجع مفهوم الدولة بصورة ذريعة لمصلحة تصوّر انقسامي وتقسيمي طائفي بشكل صارخ، يعبّر عن نفسه في تحوّل الرئاسات الثلاث، إلى مواقع يحدّد من يجب أن يتسلّمها بحسب الوزن المذهبي الذي يتمتع به المرشح. وقد بدا هذا الأمر فاقعاً في الحقبة الأخيرة على صعيد الرئاستين الثانية والثالثة، ويتم الآن تجسيده بامتياز على صعيد الرئاسة الأولى، ولا سيما عن طريق الدور الذي يُعطَى حاليّاً لبكركي والبطريرك صفير. وهو دور كان قد زكّاه طويلاً رئيس المجلس النيابي اللبناني، نبيه بري، وعلى امتداد السنتين الأخيرتين، بترداده لازمة باتت مشهورة، مفادها أنه، أي السيد بري، «وراء البطريرك»، ويلتزم بما يراه مناسباً. وهي لازمة يعمل الفرنسيون، في الوقت الراهن، على توظيفها بامتياز، من خلال الضغط على البطريرك لتسمية عدد من المرشّحين المقبولين مسيحياً (المقصود مارونياً بوجه أخص)، لاختيار أحدهم للموقع الأعلى في البلد. وإذا كان البطريرك قد تمنَّع طويلاً عن القبول بالتسمية هذه، فقد كان الضغط من الشدّة بحيث يُقال الآن إنّه وافق أخيراً على ما طلب منه، على أن يتسلم الموفد الفرنسي جان كلود كوسران هذه الأسماء منه عاجلاً، وينقلها إلى الثنائي بري ـــــ الحريري، لتقديم أحدها أو أكثر إلى المجلس النيابي في جلسة الانتخاب القادمة المحدَّدة في 21 تشرين الثاني الجاري.
وبالطبع لا بد من النظر إلى الدور المشار إليه أعلاه من زاويتين أساسيتين:
ـــــ كونه دليلاً فاقعاً على الانحطاط الذي وصل إليه الواقع السياسي اللبناني، المتمثّل في مدى تعمّق المسألة الطائفية والوزن الذي بات يُعطى للمراجع الروحية في تحديد مصير بلد يقف الآن في مهبِّ عواصف عاتية ليس معروفاً إلى أين يمكن أن تدفع به في الأسابيع والأشهر القادمة.
ـــــ كونه لن يؤدي، على الأرجح، إلى الإسهام إيجابياً في إنتاج ما تتم تسميته بالحلّ التوافقي. على العكس، فهو مطلوب فقط لأجل إمرار خدعة ضدّ القوى المواجهة للمشروع الأميركي، الذي يريد المجيء برئيس يلتزم بالتنفيذ الكامل للقرارين الدوليين 1559 و1701، وبصورة أساسية بند نزع سلاح حزب الله (والسلاح الفلسطيني في الوقت عينه)، وذلك عن طريق دفعها إلى تأمين النصاب الدستوري لموعد 21 الجاري، أو أي موعد آخر يليه، بما يُسهِّل عملياً الحصول على هذا الغطاء والمجيء بالرئيس المطلوب أميركياً.

مسألة النصاب مرة أخرى

وإنه لمن دواعي الأسف أن يكون السائد تقريباً في فهم القائلين بضرورة الالتزام بنصاب الثلثين من أعضاء المجلس النيابي أن هذا النصاب إلزامي فقط في الدورة الأولى للانتخابات، علماً بأنه يستفاد من روح الدستور اللبناني، والقواعد الدستورية المعمول بها، أنه إلزامي أيضاً في كل دورات الانتخاب، كما يمكن أن نفهم بوضوح من كتابات أحد أهم المفكرين الدستوريين اللبنانيين، ادمون ربّاط. ففي كتابه المذكور أعلاه، انطلق من واقع أن المادّة 75 من الدستور تنصّ بصراحة على أن «المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يُعتَبَر هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية...»، ليقول التالي: «يَنْتُج من ذلك أنه في هذا المجال، المستقل بشكل أساسي، حيث تُمارَس إحدى الصَّلاحيات المتعدّدة للمجلس النيابي، وفي حين كان أمكن الدستور، على غرار دساتير أجنبية أخرى، أن يولي هذه المهمّة لهيئات دستورية أخرى، فإن قاعدة النصاب لا يمكن استخلاصها من الخط الذي ترسمه المادّة 34، المعدَّة لتنظيم عمل السلطة التشريعية، ويجب ضمن هذه الشروط تكريسها على أساس أخذ المصلحة العامة بالاعتبار، وإلا يصبح غير قابل للتصوّر، لا بل خطراً بوجه خاص، أن يكون الخيار الواقع على الرجل الذي ينبغي أن يقود الدولة ناتج الثلثين في الدورة الأولى، والنصف زائداً واحداً في الثانية، من أصوات جمعية ملتئمة في ظل نصاب عادي. إن رئيساً منتخباً، في ظل هامش من الأصوات بهذه الضآلة، قد لا يتمتع إطلاقاً بسلطة مستندة إلى قاعدة برلمانية واسعة كفاية».
ويضيف رباط: «بهذا المعنى، فبمناسبة انتخاب الرئيس الياس سركيس، قرّر مكتب المجلس ولجنة الإدارة والعدل، في اجتماع مشترك في 5 أيار 1976، أنه لما كانت المادة 49 تشترط حصول المرشح في الدورة الأولى على ثلثي أصوات أعضاء مجلس النواب، فذلك يفترض مسبقاً حضور الثلثين على الأقل من أعضاء المجلس لأجل انعقاد الجلسة ومباشرة التصويت» (ص 305 وص 306).
إن ما سميناه «فهماً سائداً» لدى القوى المواجهة للمشروع الأميركي، بخصوص شرط النصاب، وهو فهم يتعارض مع رأي الدكتور رباط، كما رأينا، ويقلّص حدود الاستفادة من ذلك الشرط، يجعل منه أشبه بعود الثقاب الذي يستفاد منه مرّة واحدة. وإذا كان ذلك يدلّ على شيء فعلى الخطورة القصوى للتفريط بشكل أو بآخر بهذه الورقة الدستورية الرابحة، ولا سيما عن طريق تأمين هذا النصاب بشكل أو بآخر، وتحت أيٍّ من الذرائع، ومن بينها مناورة التسمية من جانب البطريرك الماروني، وبالتالي الثنائي بري ـــــ الحريري.

البرنامج الرئاسي

برنامج حد أدنى يفترض أن يرتبط به «العهد الجديد»، قبل أن يبصر النور، وفي سياق العملية التي قد تؤدي إلى ولادته، وهي ولادة أكثر من عسيرة. ويتضمن العناوين التالية:
ـــــ الالتزام بحماية سلاح المقاومة، على اعتبار أن هذا السلاح لا غنى عنه، ليس فقط لأجل استكمال تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وقرية الغجر، وتحرير الأسرى، بل ما دامت إسرائيل قائمة دولة عدوانية مدجَّجة بأخطر الأسلحة بما فيها شتى أسلحة الدمار الشامل، مع تطلعاتها إلى دور مسيطر في المنطقة العربية والشرق الأوسط كلّه، على مختلف المستويات، العسكرية قبل كل شيء، فضلاً عن الاقتصادية والسياسية.
ـــــ إعادة النظر بدور الجيش وطبيعته، لتقوية وظيفته قوّةً مسلَّحةً وطنية للتصدّي للعدوان الصهيوني؛ مع إعادة تأهيله لأجل هذه المهمّة. وفي هذا السياق، رفض الاستمرار في تلقي المساعدات العسكرية، على هزالها، من الجانب الأميركي. فضلاً عن تحديد موقف علني من الشائعات عن مسألة قواعد عسكرية أميركية محتملة لاحقاً، نحو الرفض المطلق لهذه القواعد.
ـــــ في المسألة الاقتصادية والاجتماعية. إذا كان للمشروع الأميركي برنامجه المتكامل على صعيد استتباع لبنان وتصفية دوره الشعبي المتقدّم في مواجهة إسرائيل والهيمنة الأميركية، فعدا أن قوى 14 آذار، بمعظمها، تنخرط في هذا المشروع تماماً، فإن لها مشروعها الداخلي الخاص المتمثل بالمزيد من نهب الثروة المحلية، ومضاعفة الضرائب غير المباشرة، أي التي تطول الفئات الشعبية خاصة.
إن إحدى النقاط البرنامجية الأساسية التي يجب أن يُربط بها «العهد الجديد» إنما هي رفض الخصخصة، ووقف الاستدانة، والانخراط في سياسة اجتماعية متقدمة لتحسين ظروف الفئات المسحوقة التي تتزايد بلا انقطاع.
ـــــ العمل على إصدار قانون جديد للانتخابات، على أساس التمثيل النسبي غير الطائفي ولبنان دائرة واحدة، مع سائر الإصلاحات التي تجعل منه قانوناً متقدماً يتيح أكبر قدر من النزاهة والتمثيل الصحيح، مع تضمينه كوتا نسائية، وسنّ الثامنة عشرة لحق الاقتراع، والسقف المتدني للمصاريف الانتخابية.

برنامج اليسار

لسنا هنا في معرض طرح لبرنامج متكامل لليسار، بل نحاول استشراف النقاط البرنامجية العريضة التي يمكن أن تنسجم مع الظرف الخاص جدّاً الذي يعيشه لبنان الآن، ومع دور أساسي ومميز يُفترَض أن يضطلع به هذا اليسار (ومن ضمنه بوجه أخص الحزب الشيوعي اللبناني)، حيال تطورات متسارعة قد تتخذ طابعاً كارثياً أو شبه كارثي في المرحلة القريبة القادمة.
والنقاط هذه تتناول البنية السياسية العامة للبلد والمسألتين الاجتماعية والوطنية، علماً بأنها تدمج أيضاً نقاط برنامج الحدّ الأدنى الواردة أعلاه.
ـــــ في البنية السياسية: إنّ كل يوم يمرّ يُظهر مدى مواصلة إنتاج البنية الطائفية للصعيد السياسي للبلد شروط الاقتتال والحروب الأهلية، التي تزداد الآن خطورة بتراكبها مع تناقضات مستجدّة، على المستوى المذهبي، وهو ما يدفع باتجاه أن يؤدي اليسار من الآن وصاعداً دوراً طاغياً في التعبئة لأجل تجاوز هذا الواقع نحو العلمنة الشاملة للدولة والمجتمع. وهو مطلب يتجاوز المسألة الاجتماعية السياسية البحتة إلى التداخل بعمق مع المسألة الوطنية، حيث إن مشروع الانفجارات الطائفية والمذهبية في لبنان (والمنطقة العربية أيضاً) هو مشروع تغذّيه وتدفع باتجاهه بقوّة، كل من إسرائيل والإدارة الأميركية، وهو ما يجعل النضال لأجل العلمنة يندرج في الوقت نفسه في النضال ضد الهيمنة الإمبريالية.
من جهة أخرى، إن الاستعصاء الراهن يكشف مجدداً الدور الطاغي للعامل الخارجي في الحياة السياسية اللبنانية، ولا سيما حين نلاحظ إلى أي حد تصل التبعية للمشروع الأميركي، والارتهان المباشر لدى الجزء الأكبر من أعضاء المجلس النيابي اللبناني بهذا المشروع، وبالتوجيهات المذلَّة للسفير الأميركي الجوَّال... جداً. إنّ مطلب انتخاب الرئيس من القاعدة الشعبية بات مسألة بالغة الأهمية؛ وهو مطلب ينبغي أن لا يبقى حكراً على قيادات دينية أو طائفية، بل على العكس ينبغي أن تضطلع بالتعبئة لأجله قوى اليسار بشكل أساسي. والنجاح في تحقيق هذا المطلب، يؤدّي وظائف عدّة في مصلحة الخروج من استعصاءات النظام القائم، لكن أيضاً في مصلحة التقدّم والتغيير. فهو عدا أنّه يسحب ورقة مهمّة من أيدي القوى الخارجية المعادية لشعبنا، ويساعد في إنتاج حظوظ حقيقية لتحويل مؤسّسة الرئاسة إلى مؤسّسة وطنية، إنما يساعد أيضاً على المزيد من تسيُّس المواطن العادي وتدخله المباشر في الشأن العام وعملية التغيير.
ـــــ في المسألة الاجتماعية: وهنا أيضاً يصبح دور اليسار جوهرياً في الدفاع عن مستوى معيشة أوسع الفئات الشعبية، ولا سيما عبر الدفاع جدياً، عن مطلب السلَّم المتحرّك للأجور، بعدما بات يشهد البلد تدهوراً كبيراً في القوة الشرائية للعملة المحلية، فيما يبقى الحدّ الأدنى للأجور هو نفسه منذ النصف الأول من التسعينيّات؛ لكن أيضاً الدفاع عن القطاع العام المهدّد بالبيع بأبخس الأثمان، مع تنظيم أوسع مواجهة لما سُمِّي الورقة الإصلاحية لحكومة السنيورة. هذه الورقة التي مرّرت الحكومة المذكورة مجموعة واسعة من قراراتها في الأشهر الأخيرة لوضعها موضع التنفيذ، وتصارع الآن لخلق شروط استمرارها في السلطة، سواء عبر تسلم صلاحيات الرئاسة الأولى، بعد 24 الشهر الجاري، أو عبر المجيء برئيس يتكفَّل تسهيل عودة الفريق نفسه الذي تتشكل منه، وذلك لأجل الاستمرار في تطبيق الورقة المشار إليها ونهب البلد حتى نخاعه الشوكي.
ـــــ في المسألة الوطنية: لا بدّ من أن يضطلع هذا اليسار بدور مميّز، ليس فقط في إحباط المساعي الأميركية المحمومة لاستخدام الاستحقاق الرئاسي والمعركة المحتدمة حوله ضدّ المقاومة وسلاحها، بل أيضاً في تصليب هذه المقاومة، عبر تنظيم الانخراط مجدّداً في العمل المقاوم، من جانب قاعدة هذا اليسار وجماهيره، ولا سيما مع تزايد احتمالات انفجار حرب إقليمية جديدة يكون لبنان أحد أهدافها، فضلًا عن تنظيم أوسع تحرك لإحباط كل مشاريع الاقتتال الطائفي والمذهبي.
أكثر من ذلك، إن عليه القيام بأنشط تعبئة شعبية، منذ الآن، ضد إنزال أميركي محتمل، في الأسابيع، أو الأشهر القادمة، لمساندة القوى المحلية المتذيلة للإدارة الأميركية، وذلك بدعوى دعم «الشرعية» اللبنانية، هذه اللازمة التي يكرّرها المسؤولون الأميركيون باستمرار، وأحياناً يومياً. لا بل الاضطلاع أيضاً بدور أساسي، في حال حصول ذلك الإنزال، في العمل العسكري والشعبي المقاوم له.
* محام وكاتب لبناني