strong> يحيى فكري *
انعقد يوم 19 تشرين الأول/أكتوبر الماضي في شيكاغو، المؤتمر الثاني لأقباط المهجر المصريين، وأثار ضجة داخل الأوساط السياسية في مصر، الحكومية منها والمعارضة على حد سواء، وكذلك وبالطبع داخل الدوائر الدينية المسيحية. فأقباط المهجر تحولوا في السنوات الأخيرة إلى شوكة في ظهر النظام المصري، وواحدة من أدوات الضغط الرئيسية على مبارك ورجاله من قبل الإدارة الأميركية. لم يأت المؤتمر بجديد، فقد خرج بالتوصيات المكررة التي تطالب بإطلاق الحريات السياسية والدينية، وإلغاء القوانين واللوائح الإدارية والأعراف الحكومية التي تميز ما بين المصريين على أساس معتقداتهم الدينية.
إلا أن أهمية المؤتمر ليست في توصياته، بل في قدرته على تجميع عدد من ممثلي الأقباط من الجاليات المصرية في الخارج، مع عدد من المفكرين المصريين المهتمين بالشأن القبطي. واللافت هذه المرة أن بعضاً من رموز الحزب الوطني الحاكم ـــــ تحديداً من رجال لجنة السياسات التي يترأسها جمال مبارك، وهم يمثلون القطب الصاعد في دوائر الحكم في مصر ـــــ طلبوا المشاركة في المؤتمر، وشارك بالفعل الأقل شأناً بينهم، بينما أعلن الملياردير المصري عدلي أبادير (الأب الروحي لحركة أقباط المهجر) في كلمته أمام المؤتمر المنقولة عبر «الفيديو كونفرانس» استعداد أقباط المهجر لمبايعة جمال مبارك رئيساً في حال قيام مبارك بفضّ ما سمّاه «شراكته العائلية مع وهابية النظام السعودي».
ويبدو أن مسألة أقباط المهجر ستكون واحدة من القضايا المركزية في التحوّلات المرتقبة في مصر خلال السنوات القليلة المقبلة. فبعد مؤتمر الحزب الوطني الأخير ـــــ الذي انعقد في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر الجاري ـــــ أصبح محسوماً أن السلطة في مصر ستؤول إلى جمال مبارك إذا جرت الأمور في مجراها المخطط لها. فأهم ما كشف عنه المؤتمر أن التجانس قد تحقق كلياً بين الأجنحة المختلفة للطبقة الحاكمة حول مشروع التوريث، وأنّ العدّ التنازلي له قد بدأ بالفعل. إلا أنّ تحوّل ذلك المشروع إلى واقع مرهون باستمرار موافقة الإدارة الأميركية وحلفائها عليه، وهي موافقة مشروطة، يجعل سحبها يؤدي إلى تعطيله بالقطع.
أهمية أقباط المهجر تأتي في هذا السياق، إذ هم يتألفون من جماعات واسعة من المسيحيين المصريين الذين واصلوا هجرتهم إلى الغرب ــــ وخاصة إلى الولايات المتحدة وكندا ــــ منذ ستّينيات القرن العشرين حتى الآن، بحثاً عن فرص أفضل، أو هرباً من الاضطهاد والتمييز اللذين يتعرّض لهما المسيحيّون في مصر. وقد بدأوا خلال العقد الأخير في تأليف جماعات سياسيّة مدنيّة مستقلّة عن الكنيسة المصريّة، التي كان لها في ما مضى دور محوري في تجميعهم حول أبرشيّاتها في بلدان المهجر. وأدّى رجال الأعمال الدور الرئيس في تأليف تلك الجماعات، وسعوا منذ الوهلة الأولى لبناء الجسور مع البيت الأبيض، في محاولة لإيجاد جماعة ضغط للتأثير في السياسة الأميركية في مصر ودفعها إلى التدخل لتحسين شروط حياة المسيحيين المصريين، أو هكذا أُعلن الأمر.
أما الحقيقة ـــــ بصرف النظر عن دوافع مَن ألّف تلك الجماعات ـــــ أن الإمبريالية هي التي استخدمتهم كإحدى أدواتها للضغط على نظام مبارك، لا من أجل الإصلاحات الديموقراطية كما ادّعوا، بل بهدف إجبار النظام على الرضوخ الكامل لسياساتها في المنطقة، والتعاون معها في ما يخصّ العراق، والتصدّي للمقاومة الفلسطينيّة وإرغام السلطة الفلسطينيّة على قبول المطالب الإسرائيليّة، وأخيراً ـــــ بشكل رئيسي ـــــ لتدشين ما سُمّي الحلف السنّي مع الأردن وبلدان الخليج لدعم الإمبريالية في مواجهة سوريا وإيران والمقاومة اللبنانية. ولم يكن لاستخدام أقباط المهجر في ذلك أن ينجح من دون أن يصبح لتلك الجماعات نفوذ ما يجعل لحركتهم تأثيراً في الساحة السياسيّة في مصر قادراً على إزعاج النظام.
المسيحيون في مصر يتعرضون للاضطهاد والتمييز بلا أدنى شك. هذا الاضطهاد له بالطبع تاريخ طويل سابق على سلطة مبارك ونظام يوليو بأكمله، وتتعدد صوره بدءاً من الاضطهاد المجتمعي من قبل الأغلبية المسلمة، إلى التمييز في القوانين والأعراف التي تمنع المسيحيين من تولي مناصب بعينها أو تعيينهم في المواقع ذات الأهمية، انتهاء بمعاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية في مناهج التعليم ووسائل الإعلام. وبعد التاريخ الطويل من الاضطهاد والتمييز ضد المسيحيين، شهدت العقود الأخيرة تزايداً في معدّلاته على كل المستويات بسبب المدّ السلفي وسط الأغلبية المسلمة، ومحاولة الدولة الاتّشاح بالمظهر الديني لسحب البساط من الحركات الإسلامية. جاء رد الفعل القبطي على تزايد هذا الاضطهاد بالارتماء في أحضان الكنيسة، التي تجاوزت دورها الديني وتحولت إلى وسيط بين الأقباط والدولة، والأغلبية المسلمة في المجتمع. وتم ذلك بتشجيع من نظام مبارك، وأدى إلى مزيد من عزلة الأقباط المصريين عن الحياة السياسية والمدنية.
انفجر الغضب القبطي عام 2001 في تظاهرات كانت الأولى من نوعها، في ظل حالة من التجذير السياسي تعيشها مصر منذ انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وتعددت التظاهرات القبطية على مر السنوات التالية انطلاقاً من حوادث متفرقة، لا قيمة لها بحد ذاتها بقدر ما كانت تعبّر عن حالة الغضب العامة. وصحيح أن كل تلك التجمهرات حدثت داخل الكنائس، إلا أنها عكست درجة من التسييس والرغبة في الوجود القبطي داخل الحياة المدنية. أما أهم شعاراتها فكانت تلك التي تطالب أميركا بالتدخل لحماية الأقباط، ما كشف عن اتساع الدور الدعائي لأقباط المهجر وسط المسيحيين في مصر، وما سمح أيضاً بتوسيع نفوذهم السياسي بالدرجة التي جعلتهم طرفاً لا بد من التفاوض معه. وهكذا تحول هؤلاء إلى أداة للضغط على النظام، في لحظة هو أحوج ما يكون فيها إلى الحفاظ على رضى الإمبريالية لتمرير خطة التوريث. هذا ما يفسر رغبة بعض رجال جمال مبارك في المشاركة في مؤتمر شيكاغو، وهو ما يفسر أيضاً ما أُعلن أخيراً من الاستعداد لمؤتمر في مصر تحت رعاية الحكومة لمناقشة الشأن القبطي، ستوجه الدعوة لحضوره إلى عدد من أقطاب أقباط المهجر.
اضطهاد المسيحيين في مصر واقع لا يمكن تجاهله، لكنه تحول على أيدي أقباط المهجر إلى أداة لتوسيع نفوذ الإمبريالية ودعم ديكتاتورية مبارك، عبر استخدام رغبات فقراء المسيحيين المصريين المشروعة في التخلص من بؤسهم، وتوظيفها لخدمة مصالح ليس لها أي علاقة بها، ما سينتهي بالضرورة إلى مزيد من الاضطهاد الديني. فلا خلاص من الاضطهاد من دون اندماج الأقباط المصريين داخل الحركة السياسية الناهضة في مواجهة الديكتاتورية والإمبريالية، ومن دون أن تضع تلك الحركة على رأس جدول أعمالها إنهاء كل صور التمييز والاضطهاد الديني. وقد يكون اتساع الحركة المطلبية المتصاعدة في مصر خلال العام الأخير ونجاح قوى المعارضة الجذرية في تحويلها إلى حركة سياسية عامة ذات ثقل جماهيري، هو الطريق الذي سيقضي من جانب على مشروع التوريث، وسيفتح الباب من جانب آخر أمام فقراء المسيحيين للاندماج فيها وطرح مطالبهم على مائدة المعارضة الديموقراطية والوطنية.
* صحافي مصري