ورد كاسوحة *
لا يشبه النظام السعودي في تركيبته الحالية أي نظام آخر في الشرق الأوسط، وذلك لجهة ركونه إلى صيغة سلطوية رثّة تضمّ إلى المكوّن الأوّلي القبلي والعشائري، ذاك الطائفي والأصولي والديني... وهي مكوّنات يمكن بقليل من الجهد، تبيّن العامل المشترك فيما بينها، وأقصد به طبعاً انتفاء الصفة «الدولتية» ذات الطابع القومي، وإحلال الولاءات السابقة لنشوء الدولة بدلاً عنها، في ما يشبه جهداً متصلاً ومنظّماً من جانب الطغمة الحاكمة في أنظمة النفط العربية لإبقاء هذه المنطقة من العالم، بمعزل عن سيرورة التحديث الديموقراطي والمأسسسة القانونية ذات الطابع الوضعي. ولا يخفى على أحد في هذا الخصوص مدى قدرة البنى العشائرية والطائفية الأنتي ـــــ دولتية على استقطاب النفوذ الخارجي، الإقليمي والدولي واستدعاؤه غبّ الطلب لتأمين مراكز نفوذ هذه الطغمة القبلية على حساب الديناميات الحية والديموقراطية في المجتمع السعودي والخليجي عموماً، وهذا يعني تكريس مبدأ الدولة ـــــ الطائفة أو الدولة ـــــ العشيرة، وربطه تالياً بشبكة المصالح الغربية والأميركية على وجه التحديد، بحيث لا يعود هناك من أمل يُذكَر في
تحرير منطقة الخليج العربي من التوصيف الشائع والسائد لها، على أنّها القاعدة الشرق أوسطية الأكثر تقدّماً للنفوذ الكولونيالي الأميركي والغربي في الشرق الأوسط.
وهنا يستطيع من يرغب في عقد مقارنة بين الأنظمة الشرق الأوسطية الحليفة لأميركا ولمشروعها الاستعماري الجديد، أن يقع على مفارقة مثيرة، تتمثّل في انفراد النظام السعودي دون غيره من باقي هذه الأنظمة بمنظومة علائقية ومجتمعية وقيمية تُعدّ الأكثر تخلّفاً بين دول المنطقة جمعاء. تستوي في هذا الأمر شؤون السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة وأنماط الإنتاج ... حيث لم يسلم أي قطاع من قطاعات المجتمع السعودي طيلة العقود الماضية من آلة الإعطاب والإفساد الوهّابية لنظام آل سعود، الأمر الذي أدّى إلى عزل «بؤر» الممانعة الليبرالية واليسارية الباقية لهذا النظام العائلي المتسلّط، وجعلها مجرّد حالات منفردة، ومعدومة التأثير، وهو ما دفع بالكثير من هذه النخب لاحقاً إلى مغادرة المملكة، والالتجاء إلى المنافي العربية والغربية، علّها تبدأ من هناك مسيرة الإصلاح الديموقراطي المنشود، حتى لو اتخذ هذا الإصلاح طابع التغيير من الخارج، وذلك بعدما وصل الكثير من هؤلاء إلى قناعة أكيدة تفيد بوصول حالة الإعطاب والإفساد في الداخل السعودي حداً لم يعد ممكناً معه الالتجاء إلى الآليات الدستورية والديموقراطية التقليدية.
ووجه الطرافة هنا أنّ «الفرادة» التي يمتاز بها النظام السعودي لا تقتصر عليه وحده بل تتعدّاه إلى القوى المعارضة له، فهذه المعارضة اليتيمة تكاد تكون الوحيدة ـــــ بين المعارضات العربية الأخرى ـــــ التي لا تتمتّع بدعم غربي أو أميركي من أي نوع. وهذا أمر يمكن في التحليل الأول ردّه إلى الشراكة الاستراتيجية ما بين الولايات المتحدة الأميركية وعائلة الملك عبد العزيز، منذ وصول هذا الأخير إلى الحكم في ثلاثينيات القرن الفائت وتوحيده للقبائل المحتربة في الجزيرة العربية لتنعقد جميعها تحت لوائه ولواء أبنائه من بعده: سعود وفيصل وخالد وفهد وعبد الله...
وقد ساعد الاكتشاف المبكر للنفط في تلك المنطقة وتلزيم عمليات استثماره بشكل حصري للبريطانيّين ومن بعدهم الأميركيّين على تكريس حكم آل سعود، وتدعيم مكانتهم وحظوتهم لدى الغرب الاستعماري، الذي آثر أن يغضّ النظر عن الطبيعة الأصولية المتشدّدة لهذا النظام العائلي، لا بل أن يشترك معه لاحقاً في خلق وتمويل حالات «الإسلام» الجهادي المتطرّف، عندما اقتضت المصلحة المشتركة ذلك.
وحال المعارضة السعودية في ذلك تشبه إلى حدّ كبير حال ديناميات ديموقراطية مشابهة في العالم أسقطتها الولايات المتحدة الأميركية أو أسهمت في وأد نشاطها، فقط لأنها يسارية أو شيوعية أو مناهضة لأنظمة يمينية حليفة لأميركا وحريصة أشدّ الحرص على مصالحها، وما تجارب مصدّق في إيران الشاهنشاهية، وسلفادور الليندي في تشيلي، وسوكارنو في أندونيسيا، وعبد الناصر في مصر... إلّا خير شواهد على ذلك.
ففي الوقت الذي نلحظ فيه «حرصاً» أميركيا مفرطاً على مستقبل الديموقراطية في دول عربية وشرق أوسطية مثل سوريا ومصر وإيران ولبنان والسودان... لا نقع على مثل هذا الحرص عندما يتعلّق الأمر بالسعودية وبسواها من دول الخليج العربي. وفي هذا الموضع يمكن الوقوف على خطاب أميركي مزدوج وبراغماتي للغاية، يفاضل ما بين أنظمة متساوية ومتماثلة في الفساد والديكتاتورية والنهج الإفقاري حسبما تقتضي المصلحة العليا الأميركية، فنراه ـــــ أي الخطاب أعلاه ـــــ يهجو الأنظمة المتطرّفة والراديكالية في سوريا وإيران والسودان ويدعو إلى قلبها وإسقاطها بكل الوسائل الممكنة، فيما يتمادى في امتداح «اعتدال» السياسة
السعودية و«واقعيتها»، إلى حدّ اعتمادها مثالاً لما يجب أن تكون عليه المنظومة السياسية الحاكمة في «الشرق الأوسط الجديد». والمشكلة تبدأ حين تشرع هذه الأنظمة بالتصرف وفقاً للرواية الأميركية، أي حين تعتبر ذاتها مكوّناً أساسياً من مكوّنات ما يُسَمّى محور «الاعتدال العربي»، وبالتالي، تنسب لنفسها أموراً لا تستقيم مع سلوكها المعلن والمضمر، فضلاً عن تنطّحها لأدوار تاريخية ليست في وارد القيام بها أساساً. فأن يزعم النظام السعودي القيام بمهمة مكافحة الإرهاب الأصولي والحدّ من انتشاره في الداخل والخارج أمر، وأن يحملنا على تصديق مزاعمه وادعاءاته البائسة أمر آخر تماماً، إذ ما من أحد في العالم يمكنه أن ينسى كيف كانت الأموال والأسلحة تتدفّق على هؤلاء الأصوليّين من كلّ حدب وصوب أثناء الغزو السوفياتي لأفغانستان في الثمانينيات من القرن الماضي، قبل أن تتوسّع رقعة الدعم السعودي ـــــ الأميركي المشترك لحركات «الإسلام الجهادي» المتطرّف لتشمل في التسعينيات من القرن الفائت مروحة واسعة، تمتدّ من البوسنة غرباً إلى الشيشان شرقاً وشمالاً، وصولاً إلى أفغانستان (مجدّداً) والعراق شرقاً. من دون أن ننسى
بالطبع الفصل الأخير من هذا المسلسل، وقد كان مسرحه مخيم «نهر البارد» للاجئين الفلسطينيّين في شمال لبنان.
وهذا الأمر ليس جديداً على أنظمة عربية كليانية ومغلقة كالنظام السعودي، وإن لم تكن ذات نزوع عسكرتاري وتوتاليتاري واضح، فليست الأنظمة العسكرتارية في سوريا وليبيا والعراق (سابقاً) وحدها من تمارس سياسة نقض الشفافية وازدواجية المعايير، وإلّا لكنّا خصّصنا أجزاءً بأكملها من هذه المقالة لامتداح النهج الديموقراطي، الشفّاف والمفتوح لأنظمة «الاعتدال العربي»،
رغم معرفتنا المسبّقة بمقدار الولاء الذي تكنّه لراعيها الأميركي، وبالتالي حرصها غير المحدود على صيانة منظومة «حقوقه» ومصالحه الشرق أوسطية.
وهذه المصالح تبدأ بمكافحة «الإرهاب الأصولي» ولا تنتهي عند حدود استمرار تدفّق نفط الخليج وعائداته المالية إلى خزائن الإدارة الأميركية، ومنها إلى كارتيلات النفط والسلاح والمال، صاحبة الباع الطويل والخبرة الاستثنائية في الحروب الإمبريالية المتنقّلة أميركياً ما بين كوريا وفييتنام ونيكاراغوا وفلسطين ولبنان وأفغانستان والعراق.
يمكن في ضوء هذا التكليف الأميركي للسعودية بأداء دور اللاجم للاندفاعات الراديكالية، اليسارية والإسلامية المناهضة للمشروع الأميركي في المنطقة، أن نفهم الخطاب السعودي المتشدّد تجاه إيران وحليفها «حزب الله»، وإن كان خطاباً لا يقطع مع الوساطات العاملة على خطّ التوتّر المشترك ما بين الطرفين، بسبب الثقل الإقليمي الذي تمثّله إيران، فضلاً عن «رغبة» كل منهما ـــــ أي السعودية وإيران ـــــ في درء مخاطر فتنة سنية ــــــ شيعية باتت ماثلة وراهنة أكثر من أي وقت مضى، وخصوصاً في العراق ولبنان، حيث أحداث «نهر البارد» في طرابلس والجامعة العربية في بيروت لا تزال طرية وماثلة في الأذهان لمن يريد أن يعتبر.
ولكي تكتمل صورة مشهد درء الفتنة المزعوم لا بد من الإشارة هنا إلى التشكيكات والتساؤلات الملغزة التي طرحها أخيراً بعض المراقبين للشأنين السعودي ـــــ الإيراني والسعودي ـــــ اللبناني، بعدما قدّم سيمور هيرش في «النيويوركر» منذ أشهر مطالعته الصحافية الشهيرة عن ارتباط مجموعة «فتح الإسلام» بجهات سلطوية لبنانية على صلة مباشرة بالجناح الأكثر تشدّداً حالياً في الإدارة السعودية، ونقصد به تيار رئيس مجلس الأمن القومي السعودي الأمير بندر بن سلطان المعروف بارتباطاته الوثيقة بإدارة جورج بوش وفريق المحافظين الجدد. وإن كان المرء لا يستبعد مثل هذه الفرضيات نظراً لماضي بندر بن سلطان المعروف للقاصي والداني، إلا أنّه في المقابل، يبقى على مسافة محدّدة منها، على اعتبار أنّها في النهاية مجرّد تحليلات وفرضيات صحافية لا تزال بحاجة إلى دلائل إضافية ووثائق دامغة حتى تغدو في طور الحقيقة المسلم بها. والحذر هنا ضرورة وواجب لتجنّب اعتماد هذه التحليلات معياراً أخيراً ووحيداً للحكم على أحداث إشكالية، ومفتوحة على تأويلات شتّى كأحداث مخيم «نهر البارد»، وخصوصاً في ضوء الروايات المتضاربة التي امتلأت بها الصحف ووسائل الإعلام عن جهة تمويل مجموعات «فتح الإسلام»، وما إذا كانت مرتبطة ـــــ أي المجموعات ـــــ بالمحور الأميركي السعودي، أم بالمحور الإيراني السوري.
وإذا كانت لهذه الإشارات المتناقضة التي ترسلها السعودية من دلالة ما، فهي بلا شك تلك المتعلّقة بالصراعات داخل العائلة المالكة بين جناح «معتدل» وآخر متطرف من جهة، وبالنهج البراغماتي المفرط الذي تنتهجه المملكة لجهة التعاطي مع الملفات الخلافية والمتفجرة في المنطقة مثل الملفين اللبناني والفلسطيني من جهة أخرى. من دون أن نغفل طبعاً الدينامية الصراعية المتولّدة عن ملفّ إيران النووي، وهو كما نعلم الملف الذي يرتدي أولوية قصوى في الأجندة السعودية، إذ تدور حوله وعلى مقربة منه، كل أشكال الصراع الحالية في الشرق الأوسط بين معسكري «الاعتدال» و«التطرّف» المزعومين.
والحال أنّ «النجاح» الذي أحرزته الإدارة الأميركية في إسباغ صفة «الاعتدال» على سياسات النظام السعودي بدأ ينسحب على الموقف الأوروبي من هذا النظام، وهو موقف ظلّ إلى وقت قريب متحفّظاً وشديد الحساسية تجاه الكثير من الممارسات السعودية المتصلة بالفساد والاستئثار بالحكم واضطهاد المرأة والأقليات العرقية والدينية، وقمع حرية الصحافة والنشاط الإبداعي... إلّا أنّ أزمة إيران المتفاقمة مع الغرب الأوروبي والأميركي، ورغبة هذا الأخير في محاصرة الجمهورية الإسلامية ووأد طموحها النووي بأي ثمن، «فرض» على دول الاتحاد الأوروبي استدراج الثقل الذي تمثّله السعودية في منطقة الخليج، وبالتالي محاولة اللعب على التناقض المذهبي ما بين سنة السعودية والخليج وشيعة إيران، لتحجيم الدور الإقليمي لإيران قدر الإمكان، حتى لو كان الثمن تغاضياً أوروبياً مفرطاً في ذرائعيّته عن السجل السعودي الأسود في حقوق الإنسان.
تندرج في هذا الإطار الزيارة «التاريخية» (كما دأبت على توصيفها وسائل الإعلام العربية المموَّلة سعودياً) للعاهل السعودي إلى مجموعة من الدول الأوروبية الفاعلة والمقرّرة في مصير المنطقة مثل: بريطانيا وألمانيا وايطاليا، حيث لقي الملك عبد الله من الحفاوة والتقدير ما لم يلقَه أي «زعيم» عربي آخر منذ عقود.
يصحّ القول أخيراً في هذه الزيارة إنّها كشفت عن الوجه الذرائعي لغرب الأنوار وحقوق الإنسان في أكثر ملامحه نفاقاً، فإذا كان النظام السعودي هو النموذج الشرق أوسطي المراد تسويقه لنا أوروبياً وأميركياً بوصفه أيقونة «الاعتدال» ودرّة تاج «الواقعية السياسية»، فبئس هذا الغرب الذي بات يطالبنا بتبني أكثر الأمثلة العربية ابتذالاً وسوءاً في الحكم والسياسة وإدارة الشأن العام.
* كاتب سوري