بولس الخوري *
أوّل ما يتبادر إلى الذهن عند قراءة عنوان «مفهوم الثقافة ودورها الوحدوي في المجتمع الإنساني»، هو افتراض أنّ المجتمع غير موحَّد، وافتراض أنّ الثقافة عامل التوحيد المنشود. فإذا كانت الثقافة هي الدواء، وجب أن نقف على مواقع الداء في المجتمع، أي عوامل الخلل فيه، ثمّ أن نقف على أشكال الوحدة الممكنة للمجتمع، ثمّ أن نقف على مكوّنات المجتمع السويّ، وأخيراً أن نقف على الثقافة الموحّدة للمجتمع.

المجتمع المتفكّك أو المدينة الظالمة

أوّل الخلل تُحدثه عوامل داخليّة، تعمل على تحويل الوظائف الأساسيّة المكوّنة للحياة الجماعيّة عن أهدافها. فيكون المجتمع مجتمع العنف والكذب.
الوظيفة الأولى: وظيفة السلطة؛ فبدلاً من أن تكون خدمة الجماعة وتأمين الخير العامّ، تحوّلت إلى تسلّط، يمارسه الحكّام، يساندهم في ذلك رؤساء الطوائف والزعامات والفاعليّات... فبدلاً من تأمين الخير العام، تتأمّن المصالح الخاصّة أو الفئويّة. وحصل شرخٌ بين الحكّام والشعب، وانعدمت الثقة بين الطرفين، ولم يعد من مواطنين مسؤولين عن الخير العام، بل رعايا وشعبٌ قاصر، يخضع لتعنيف الحاكم المستبدّ.
الوظيفة الثانية: وظيفة امتلاك الخيرات. فبدلاً من أن يلبّي حاجات جميع أفراد الشعب، تحوّل إلى احتكار واستغلال، احتكار كوسيلة للتحكّم بحاجات الناس، واستغلال لتأمين المصالح الخاصّة. وكلّ ذلك لدوام السلطة والتسلّط ودوام تأمين المصالح الخاصّة.
الوظيفة الثالثة: وظيفة التبرير، أي اختلاق تبريرات إيديولوجيّة للواقع، بإيهام الناس أنّ النظام القائم والممارسة القائمة إنّما هما لخير الشعب. وفي هذا المجال، يظهر اختلاف المصالح، وتصارع الإيديولوجيات السياسيّة والدينيّة والمذهبيّة والفئويّة، فيتشتّت المجتمع تتنازعه الأطماع المتباينة.
تزيد في الخلل عوامل خارجيّة. وهي تدخّل دول شقيقة أو غريبة «صديقة» أو غير صديقة، بدافع الطمع، وتأثيرها في شكل دعم فريق ضدّ فريق آخر، بناءً على مبدأ «فرّق تسدْ».

أشكال الوحدة

فهي إمّا وحدة تأحيديّة كما في الأنظمة الاستبداديّة البوليسيّة المخابراتيّة، حيث القائد الواحد، والحزب الواحد، والأنظمة الأمنيّة المسيطرة. وحدة كهذه مرفوضة لكونها حوّلت الأشخاص إلى أغنام أو آلات يحرّكها المحرّك الحاكم، فغابت إنسانيّة الناس.
وإمّا وحدة ديموقراطيّة، يكون فيها الشعب حرّاً سيّداً، ويكون أفراد المجتمع مواطنين عليهم العمل على تأمين الخير العام، ولهم محاسبة المندوبين المنفّذين للسبل الكفيلة بتأمين هذا الخير. ومن الديموقراطيّة الحقّ في الغيريّة والتعدّد مع الالتزام بالهدف الجماعي الواحد هو الخير العام.
وقد تكون الوحدة الديموقراطيّة وحدة فدراليّة، تقوم على استقلال داخلي لكلّ فئة من المجتمع الشامل، وعلى وظائف مركزيةّ توحّد وتجمع بين الفئات المختلفة.
وقد تكون الوحدة الديموقراطيّة وحدة دستوريّة وقانونيّة يصحبها مجموع «أحوال شخصيّة». مثال ذلك النظام الطوائفي التوافقي، المتميّز بتعدّد الطوائف المذهبيّة والأحزاب السياسيّة والجمعيّات الأهليّة وكلّ ما يدخل في مفهوم «المجتمع المدني».
وقد تكون الوحدة الديموقراطيّة وحدة الدولة العلمانيّة القائمة على الدستور الواحد، والقانون الواحد، واحترام الحريّات الشخصيّة، واحترام الطوائف وغيرها من التجمّعات الحزبيّة والأهليّة، شرط إسهامها بالعمل على تأمين الخير العام من دون المطالبة بحقّ الهيمنة على الدولة.
لكلّ بلد وشعب ومجتمع ما يلائمه من أنواع الوحدة شرط احترام حقوق الإنسان والمواطن.

مقوّمات المجتمع السويّ

يمكن استخلاصها من تحليل الأنظومة الثقافيّة الشاملة لمجالات التقنية والفنّ والأخلاق والعلم والمجتمع والدين: يشمل مجال المجتمع العلاقات بين الناس، كعلاقات العمل وعلاقات السلطة، والنظم والمؤسّسات الاجتماعيّة التي تنظّم المجتمع في أشكاله: العائلة والاقتصاد والسياسة. والمجتمع لا يقوم إلّا متى اعتُبر الإنسان الآخر قيمةً، ومتى اعتَبر الجميع الخيرَ العام قيمةً. والمجتمع يتكوّن على صعيدين، صعيد المعيّة الذي يلبّي غريزة التجمّع، وصعيد الاتّصال في هيئة المودّة وفي هيئة التنظيم العقلاني.
والتجمّع أو المجتمع يلبّي الحاجة إلى الحماية عند الأفراد. والمجتمع يُعتبَر الوسيلة الشاملة لتلبية جميع حاجات الأفراد. ولا يكون المجتمع إنسانيّاً إلاّ إذا قام (وفقاً لما جاء في أخلاقيّات كانط) على اعتبار الإنسان الآخر بذاته قيمةً تُخدَم لا وسيلةً فقط تُستخدَم.

أيّ ثقافة توحّد المجتمع؟

ثمّة مفهومٌ للثقافة تكون عناصرها اللغة والدين والرؤية إلى الكون والبنية الذهنيّة:
أوّلاً، اللغة الواحدة، مع لحظ الفوارق في استعمال اللهجات المختلفة، وفي الكلام والكتابة. ومع لحظ تعلّم اللغات الأجنبيّة، من دون أن تطغى على لغة المجتمع الأصليّة.
ثانياً، الدين، بقيمه الأساسيّة وأخلاقيّاته، مع لحظ الفوارق بين الأديان والمذاهب. ولدينا في ذاك مثلاً التباعد والتلاقي بين المسيحيّة والإسلام، حيث نلحظ البنية الهندسيّة الواحدة للأنظومتين الدينيّتين: (1) الله. (2) المسيح كلمة الله/ القرآن كلام الله. (3) الكنيسة/ الأمّة أو جماعة المؤمنين. (4) الروح/ الشريعة: به أو بها يكون المؤمن هو الإنسان الكامل. (5) المحبّة/ الإيمان أو التوحيد، يعني التحرّر من حتميّات الحياة. ولدينا في ذلك أيضاً مثلاً الفوارق والتلاقي بين الكنائس المسيحيّة المختلفة: (1) المسيح هو المرجع الواحد. (2) تنظيم الجماعة الدينيّة أو المذهبيّة. (3) تنظيم الحياة الدينيّة (العبادات). (4) الأخلاق الدينيّة والتربية الدينيّة.
في الأساس، لمّا كان الله ليس كمثله شيء، صار من الممتنع تأكيد أيّ شيء في ما هو في ذاته... يبقى أنّ الناس تختلف مذاهبهم الدينيّة باختلاف التعابير الثقافيّة عن طلب المطلق الواحد عند جميع الناس. فيكون لكلّ واحد من التجمّعات الدينيّة أو المذهبيّة طريقته الخاصّة لعيش طلب المطلق هذا. وقد يتعاون الأفرقاء المختلفون، فقد يحثّ المسيحيُّ أخاه المسلم على أن يعيش قيَم إسلامه الجوهريّة، وقد يحثّ المسلم أخاه المسيحي على أن يعيش قيَم مسيحيّته الجوهريّة. وكذلك الأمر بين المذاهب المسيحيّة المختلفة.
ثالثاً، الرؤية إلى الكون، أو الموقف الأساس من الكون: في الأصل، نجد موقفاً إجماليّاً من الكائنات ومن الأحداث، أي موقفاً من الكون بما هو واقع معطى. وإجماليّة الموقف تعني أنّ الإنسان، بجميع قدراته وجميع أبعاد كيانه، انصبّ في علاقته بالكون على نحوٍ بات وجوده معه يتحدّد بهذا الموقف. والمواقف على أشكال، منها، على سبيل المثال، موقف قبول الواقع تبعاً لمبدأ الواقعيّة في نظريّة فرويد، وموقف رضى التسليم تبعاً لمبدأ الرواقيّة، وموقف الرفض الذي يتميّز به سنّ المراهقة، وموقف التمرّد في نظريّة ألبير كامو، وموقف الاعتماد على القدرة الذاتيّة المتمثّل بالبطل الأسطوريّ بروميتيوس عند الإغريق، هذا البطل الذي بات رمزاً ومثالاً للإنسان العصري. ومهما كان الموقف الأساسي، فهو ينعكس أو يعبّر عن نفسه، منتقلاً من كونه ذاتاً إلى كونه موضوعاً، في أشكال أو مجالات أربعة تتكوّن من جملتها المجالات والنشاطات والكفاءات التي تتحدّد بها وتؤدّيها الأنظومة الاجتماعيّة الثقافيّة.
هذه العناصر الثلاثة، اللغة والدين والرؤية إلى الكون، تعبّر موضوعيّاً عن ذاتيّة البنية الذهنيّة الواحدة. فمثلاً يمكن مقارنة البنية الذهنيّة العربيّة أو المشرقيّة التقليديّة أو التراثيّة بالبنية الذهنيّة الغربيّة الحديثة. فحداثة الحضارة الغربيّة، ذات النمط العلمي والتقني، قوامها معرفة العالم والإنسان والسيطرة عليهما، والتنظيم العقلاني للمجتمع الاقتصادي والسياسي، بحيث يأخذ العقل النقدي على عاتقه العالم والمجتمع والإنسان. على هذا الأساس تظهر الفروق العتيقة التي تتعارض بسببها الذهنيّة التقليديّة والذهنيّة الحديثة. الأولى أسطوريّة أو ماورائيّة، والثانية وضعيّة وتجريبيّة. الأولى تقيم وزناً للكلام الذي به يغيب الإنسان عن العالم، لحاجةٍ به إلى الهروب والانخداع، والثانية تقيم وزناً للعمل وتعيد الإنسان إلى قلب حقائق العالم وأمام مسؤوليّاته. الأولى قوامها الموقف العَقَدي أو الدُغماتي المرتبط بممارسة السلطة وبالقبول بالنظام القائم على أساس الاعتقاد بالمطلق، والثانية موقف نقدي مرتبط بالتشكيك بكلّ نظام قائم، وأساسه إدراك الطابع السلبي للأشياء جميعاً واقتضاء الحرّيّة. الأولى تبدو كأنّ طلب الأمان الطفولي يسيطر عليها، والثانية تبدو كأنّها قبول الإنسان البالغ بالمجازفة وفقدان الأمان. الأولى استسلام، والثانية إيمان بالعمل وبقدرة الإنسان على الإبداع.
أمّا الثقافة التي تجمع وتوحّد، فهي التي تتكوّن من القيم الإنسانيّة ومن احترام الآخر في سعيه نحو المطلق كما يتصوّره، واحترام القانون الواحد والتصوّرات الإيديولوجيّة المختلفة للخير العام. وذلك يتمّ متى قام المجتمع على نظام ديموقراطي علماني، يجعل الشعب حرّاً في انتخاب ممثّليه وحكّامه وفي محاسبتهم على أدائهم، ويؤسّس الثقة بين المواطنين والحكّام، ويجعل المؤسّسات تعمل وتقوم بتلبية حاجات الناس فتنال ثقة المواطنين، ويجعل الإنسان محوراً أو مركزاً أو غايةً لجميع عناصره ومؤسّساته، سعياً إلى اكتمال الإنسانيّة في كلّ إنسان.
يبقى أن يُصار إلى توعية المواطنين على حقوقهم عن طريق ما يسمّيه هيغل Bildung تنشئة، في الأسرة والمدرسة والنقابة والحزب، وخصوصاً الجامعة، وخصوصاً بتوجيه المثقَّفين العقلاء الذين لا يهتمّون لزعامتهم بل لمصالح الوطن.
ويبقى أنّ اكتمال الإنسانيّة في كلّ إنسان إنّما هو هدفٌ مثالي قد لا يُتاح لأيٍّ من البشر أن يبلغه ويجعله حقيقةً ملموسة.
* كاتب لبناني