هشام نفاع *
في توقيت مريب، جاءت آخر الصرعات السياسية الإسرائيلية: مطلب الاعتراف بإسرائيل «يهودية» شرطاً مسبقاً لأية تسوية مع الشعب الفلسطيني. وهو ما يجسّد تجسيداً جديداً لمنطق اللاءات الاسرائيلية المعهودة، ليؤلّف مقطعاً جديداً من جدار الفصل بين واقع استمرار الاحتلال والاستيطان وتشريد اللاجئين، وبين احتمال أية تسوية عادلة وثابتة.
وكأنّ تلك اللاءات لا تكفي لتفجير أية عملية تفاوض في مهدها.. ابتداءً برفض إنهاء الاحتلال وتفكيك كل أجهزته، العسكرية منها والاستيطانية والسياسية والاقتصادية، ورفض العودة الى حدود 1967 بما يعنيه من كنس جميع المستوطنات والانسحاب من القدس الشرقية المحتلة، ورفض احترام وتطبيق جميع حقوق اللاجئين الشرعية كما وردت في القرار الدولي 194.
الكاتب العبري بيني تسيبر كان حادّ الموقف في هذا الصدد، وإن كان يتناول المسألة في اتجاه إسرائيلي داخلي. فقد كتب: «إنه مطلب يعبّر أكثر مما نتصور عن تلك العقلية المقرفة، وكأن كونك يهودياً هو أمر فريد من نوعه (...) أنا أعتقد أن كون الشخص يهودياً هو مثل أن يكون أيّ شيء آخر، فلا يوجد أكثر غباءً من محاولة التفرّد بشيء لست مسؤولاً عنه، بل هو بالأحرى معطى موضوعي ولدت معه. فأنا سأكون سعيداً لو أن اسرائيل، كشرط لتوقيع اتفاقية سلام مع الفلسطينيين، كانت ستطالبهم بالاعتراف بإسرائيل دولةً إنسانيةً، أو دولة رفاه، أو دولةً نظيفة. في هذه الحالة كنت سأوقّع على عرائض لإجبار الفلسطينيين على الاعتراف بذلك»! ويتابع تسيبر: «أنا لا أشعر بأية قربى من (الوزير) أفيغدور ليبرمان، وهو من زعامات الزاعقين بمطلب اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل دولةً يهودية. فمن ناحية ما أعرّفه قيماً يهودية، أي قيماً إنسانية، ليبرمان ليس يهودياً بتاتاً بنظري». وهو يختتم: «الويل لليهودية لو أن اسرائيل بما هي عليه اليوم هي دولة يهودية»...
للوهلة الأولى، قد يظهر أن هذا المطلب الاسرائيلي الرسمي جاء فقط ليكون عقبة جديدة لمنع أي تقدّم سياسي. عقبة تضاف الى سابقاتها العديدات. فتاريخ السلوكيات السياسية الاسرائيلية يعزّز من هذا الانطباع، بكونه تاريخاً مؤلفاً من الرفض المتعنّت والاستقواء المتغطرس على حقوق الفلسطينيين، ضحايا الجرائم الصهيونية، تشريداً واحتلالاً وقمعاً وتمييزاً عنصرياً، على امتداد ستة عقود.
الى جانب ذلك يصحّ طرح بعض الأسئلة الشكلية، قبل الانتقال الى المضمون: فما معنى أن تطالب أية دولة مُفاوضاً أجنبياً بأن يشاركها في تحديد طابعها، شرطاً لإنجاز تسوية معه؟ بشيء من التهكّم يمكن القول إن حكومة اسرائيل إنّما تتنازل بمطلبها المذكور عن جزء من سيادتها، بوصف السيادة قراراً حصرياً للدولة في تحديد شأنها الداخلي. وطابع أية دولة هو قرار سيادي وشأن داخلي.
يجب الالتفات الى ما يقف خلف الحقيقة التي يكشفها هذا المطلب، وهي أن الاعتراف بسيادة دولة اسرائيل لا يكفي حكّامها، بل نراهم يسعون الى ابتزاز اعتراف بسيادة من نوع محدّد، هي السيادة الإثنية، بالأحرى السيادة الدينية. فاليهودية لم تُحسم حتى في اسرائيل نفسها من حيث ما تعنيه. لا يزيد الأمر إلا في بعض رموز شكلية عاجزة عن رأب مختلف أشكال التصدعات داخل المجتمع الاسرائيلي. لا تزال الطريق بعيدة بين العلماني والمتديّن، بين المتديّن المعهود وذلك المتشدد، بين المهاجر من أوروبا وذاك القادم من المغرب والمشرق العربيين. هنا يكمن خطر لا تعترف به سوى قلّة من الاسرائيليين، وهو أن تقديس تلك الرموز المتزامن مع رفض جبان لمواجهة أسئلة المضمون، ما انفكّا يحوّلان اليهودية من حضارة وموروث الى أداة سياسية مشوّهة تُستخدم لتبرير موبقات. وفي الحقيقة، هذا هو بالضبط ما فعلته الصهيونية باليهودية ـــــ وهما أمران مختلفان تماماً يجدر التذكير بهما.
من دون الاقتراب من علم النّفس الذي لا أفقهه بما يكفي ليجيز لي الخروج بادعاءات ومزاعم، سأجازف بالقول إن الأوساط الحاكمة والمتحكّمة في اسرائيل تتشكك في شرعية دولتها، وستظل كذلك، حتى لو حظيت باعتراف الفلسطينيين (وسائر العرب) بها. لماذا؟ ربما لأن التخلّص من هذا الشك الذاتي يتطلّب مواجهة مع التاريخ والاعتراف بما اقتُرف مع إقامة هذه الدولة على أنقاض فلسطين بعد تخريبها. فهناك طريقان: إما الاعتراف ومواجهة الذات وهو ما من شأنه أن يوقف الكثير من السلوكيات الوحشية المَرضيّة المتواصلة التي تعبّر عن هروب سيزيفي دائم الى الأمام مما اقتُرف، أو عدم الاعتراف ومواصلة البحث، في الوقت نفسه، عن شرعيات مستحيلة لما اقتُرف.
في الحالة الأولى، لو اعترفت اسرائيل الرسمية بما اقترفته، فستكون قد قدّمت مساهمة جديّة على طريق المصالحة. المصالحة مع الشعب الفلسطيني، ضحيتها، وربما مصالحة مع ذاتها المشوّهة أيضاً. ولكن هذا لا يزال يبدو بعيداً عن الأفق للأسف، لأن مؤسسة هذه الدولة لا تزال استعمارية النزعة والممارسة، تعيش وسط المشرق العربي وتتخيّل نفسها تقطن على مقربة من لوس أنجلس! أو كما سبق أن عبّر عن هذه النزعة المتغطرسة الجنرال السابق إيهود باراك: إن وضعية إسرائيل أشبه بفيلا وسط الأدغال ـــــ فالعرب المحيطون هم، بالنسبة لهذا المليونير المغرور، حيوانات برية أو جماعات من الهمج في أفضل الأحوال!
أما في الحالة الثانية، رفض الاعتراف بما اقتُرف، وتكون الأوساط الاسرائيلية الحاكمة إنما تطالب الشعب الفلسطيني عملياً بمشاركتها فعلة الإنكار والتنصُّل مما أوقعته بحق هذا الشعب نفسه. فمطالبة الفلسطيني بالاعتراف بإسرائيل يهودية، معناها مطالبته بإسباغ الشرعية على المقولات الصهيونية المؤسِّسة: «حق تاريخي» في فلسطين، وشعب (يهودي) لأرض بلا شعب (فلسطيني)، أي أن المجرم يطالب الضحية بتوقيع صك براءته!
ولكن ما الذي يختبئ عملياً خلف تلك البدعة الخرقاء؟ والمقصود بـ«عملياً» هو الهدف السياسي العيني المباشر الذي يُراد تحقيقه تحقيقاً مخطّطاً.
من الواضح أن أكثر ما يؤرق مؤسسة اسرائيل الرسمية هو قضية اللاجئين، لأن الخوض فيها، بل مجرد الاعتراف بالمسؤولية عن نشوئها سيقوّض معظم الرواية الرسمية المليئة بالثقوب التي تراكمت خلال عقود. فالغطاء الذي يوفره ناطقو المؤسسة لرفضهم مجرد الاقتراب الجدي من تلك القضية الجوهرية، هو ذلك الديموغرافي، أي المرتبط مباشرة بالمعتقد الغيبي الذي يُسبغ على الدول هويات غيبية. من هنا، لا يمكن إلا ربط مطلب الاعتراف بيهودية اسرائيل، بالمحاولة المتعنّتة المتشددة للتهرّب من استحقاقات قضية اللاجئين لكون عودتهم تمس بيهودية الدولة. هذا هو الفخ الجديد. فلو تخيلنا سيناريو يتحقق فيه هذا المطلب، تكون قد تحققت الغاية الاسرائيلية بإزالة هذه القضية عن الطاولة بل من الوجود. كذلك قبول هذا المطلب يفتح الباب على مصراعيه لخطر نشوء لاجئين جدد نتيجة «ضرورة الحفاظ على النقاء العرقي للدولة اليهودية»... ومن المهم تذكّر تصريحات وزيرة الخارجية تسيبي ليفني بأن الدولة الفلسطينية هي حلّ قومي لمن أطلقت عليهم التسمية الاستعلائية «عرب اسرائيل» (أي نحن الفلسطينيين الباقين في وطننا بعد 1948). هذا التصريح يكشف عن غياهب شديدة القتامة في توجّه السياسيين الرسميين، تثير مخاوف حقيقية. فأي فلسطيني يسمع كلاماً ككلام تلك الوزيرة، لا يلوح في رأسه سوى سيناريو واحد: ترانسفير جديد.
من هنا، لا يجب فقط على المفاوضين الفلسطينيين رفض هذا المطلب، بل يجب رفض مجرّد الخوض فيه أو الالتفات إليه. فليُترك حتى يتعفّن، وهنيئاً لأسراب الذباب التي ستحطّ عليه!
هناك حاجة إلى التذكير بأن أفضل التسويات السياسية ستظل في أدنى حدود العدالة بالنسبة لشعب وجد نفسه مضطراً إلى التنازل عن الجزء الأكبر من وطنه بغير ذنب اقترفه! وهو ليس تذكيراً للرسميين الاسرائيليين فقط، بل لعربٍ أيضاً، قد لا يُقدمون على تقديم تنازلات جوهرية، إرضاءً لإسرائيل بالضرورة، بل خنوعاً لأوامر البيت الأبيض!
* صحافي فلسطيني