عبد العزيز محمد سبيتي
في نهاية الأربعينيات وحتى بداية الستينيات من القرن الماضي، كنا نسكن في منطقة فرن الشباك من بيروت الكبرى. ومن حسن حظنا أننا كنا قريبين من أماكن لم ولن نتمكن من نسيانها، لما حملته من ذكريات حلوة.
كنا قريبين من مكان المدرسة التي تعلمت فيها، وهي إلى جانب كنيسة مار نوهرا، بحيث كنا نحضر القداديس حتى حفظنا فيها كل الصلوات، ولم نكن نفكر بأننا لا نتبع للكنيسة بل إلى المسجد، الذي كنا نذهب إليه كذلك ونصلّي بطريقة مختلفة، ولكن بنفس الجوهر ولنفس الإله الواحد وحتى الكلمة الأخيرة آمين...
وكنا قريبين من بيت الكتائب اللبنانية ومكتب الزعيم كمال جنبلاط في بدارو، ومنزل السلطان سليم شقيق رئيس الجمهورية يومها. وكنا نحضر المهرجانات الانتخابية للرؤساء عبد الله اليافي وسامي الصلح وصائب سلام والوزير رشيد بيضون ومرشح «الحياة وقفة عز» الصحافي الأستاذ غسان تويني. والأهم أننا كنا قريبين جداً من مكان العرض العسكري للجيش اللبناني، الذي نحضره سنوياً بمناسبة عيد الاستقلال. وأجمل ما فيه أنه لم يكن يُرفع فيه إلا العلم اللبناني. وحتى العنزة الصغيرة التي كانت «تتقرطظ» أمام ألوية المشاة، كانت ملفوفة بالعلم اللبناني.
والذي كان يبهرنا بعد العسكر وقادته، المنصة التي كان يجلس عليها قادة الوطن وضيوفهم، الذين لم نكن نراهم إلا في المناسبات الكبرى التي يدعون لحضورها، عكس اليوم، فإنهم «يخلدون» الأرض ذهاباً وإياباً وبكل الاتجاهات، يعطون الإرشادات والنصائح والتعليمات لجميع القادة أفقياً وعمودياً، وظاهر الأمر محبة لبنان وشعبه، والواقع ليس إلا استغلالاً لضعف القيادات الدنيوية والدينية بسبب انخفاض معدل الحس الوطني، والمحافظة على استقلال الشعب والوطن من جانب معظم قادة الأمة التي باتت أمماً بفضلهم. والذي يسترعي الانتباه أننا كنا نسمع ونشاهد الكثير من البرامج المخصصة للجيش والقوى الأمنية عبر إذاعة لبنان وعبر تلفزيون لبنان، والتي اختفت كلها بفضل الفكر الإعلامي الوطني الذي بات همّه الإضاءة على تحرك السفراء ومن يزورونهم من القيادات الذين يتفاخرون بتلك الزيارات، حتى بات المواطن يظن أن في لبنان مئة وزير خارجية، منهم من أهل سياسة الدنيا ومنهم من أهل الآخرة.
أما اليوم، فلم يعد من ذكرى عيد الاستقلال إلا الجيش الوطني وقيادته، بالرغم من المصائب التي يعانيها، من إسرائيل في جنوب الجنوب، وفتح الإسلام في الشمال، ومن كل ما بينهما من تواريخ آذار وشباط وكانون وحزيران وتموز وأيلول، وما حصل فيها من جرائم ومآس، وكلها بوجه الجيش وقيادته، والذين بفضل شرفهم وتضحياتهم ووفائهم لم يزالوا صامدين موحدين بالرغم من القلة في كل شيء، بدءاً من السلاح والمال، وانتهاء بالشعور الوطني المفترض على كل مواطن تجاه المؤسسة الوحيدة التي فرضت احترامها على الجميع دون استثناء، لأنها حمت وتحمي وستحمي الجميع.