علاء اللامي *
يمكن الإجابة المباشرة بنعم ولا معاً عن هذا السؤال الشائك. ومع ذلك، فلا بدّ من التفصيل: فـ«المقاومة العراقية» كمصطلح سياسي يمتلك محتوى منسجماً نوعيّاً ويمكن إطلاقه على جميع الفصائل المسلَّحة التي قاتلت الاحتلال ببرنامج وشعار وسلاح واحد، بصرف النظر عن تركيبتها التكوينية (أي عن الهوية الطائفية والمذهبية للمنتمين اليها)، لا وجود لها على أرض العراق المحتلّ. فحتى حين كانت المقاومة تقاتل المحتلّين في المنطقة الغربية، في الوقت ذاته التي تدور رَحى انتفاضة النجف الأولى ثمّ الثانية، لم يكن بوسعنا الكلام براحة وثقة على مقاومة عراقية كهذه منسجمة تكوينيّاً.
وفي أحسن الأحوال، كان يمكن الحديث عن جناحين مختلفين نوعيّاً من حيث التكوين، والشعار، والمرجعيّة السياسيّة، في إطار مقاومة مسلّحة تدور في بلد واحد، آخذين بعين الاعتبار أنّ الطائفية التكوينية تختلف تماماً وجوهرياً عن الطائفية الانتمائية والبرنامجية، لأنّها محايدة أصلاً وطبيعية، وتتحوّل إلى السلب والانعزال (أي إلى الطائفية السياسية والاجتماعية) متى عبرت من الطابع التكويني الكامن إلى الشعار السياسي الطائفي، والبرنامج والأهداف الطائفية الصريحة.
قد لا نلمس هذا الميل الطائفي لدى بعض الفصائل المسلّحة في المقاومة، وقد نلمسه خفيفاً وشاحباً لدى أخرى، ومتشنّجاً لدى بعضها الآخر، وصريحاً، استفزازياً وتكفيرياً لدى فصيل واحد معروف، هو «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين»، والتشكيل الذي وُلِد عنه والذي يرفع اسم «دولة العراق الإسلاميةإنّ التفريق الصارم والعميق بين الطائفية التكوينية، التي هي واقع اجتماعي ومُعطى محايد ومستقل نسبياً عن إرادات الذوات الإنسانية الفاعلة سياسياً واجتماعياً، والطائفية الانتمائية البرنامجية المنحازة والتقسيمية، ذات المنهجية والممارسة الفاشية النزعة بالضرورة، هو الذي يجعل من انتقاد هيئة العلماء المسلمين مثلاً ككيان طائفي أُقيم في مواجهة كيان طائفي مقابل، يُقصَد به المرجعية الشيعية النجفية، انتقاداً بلا معنى ولا مضمون.
أمّا الارتكاز على إحصائية أو معطى تجريبي محدّد يقول مثلاً إنّ نسبة العمليات المسلَّحة التي تقوم بها الفصائل الشيعية، باعتراف مصادر الاحتلال، تصل إلى 85 في المئة من مجمل العمليات، والبناء عليه، وصولاً إلى تقرير وجود تحوّل في الانتماء الطائفي للمقاومة، من دون تبيان طبيعة هذا التحوُّل، وإن كان تكوينيّاً أو انتمائيّاً، أقول: إن هذا الارتكاز غير صحيح، وقد يؤدي إلى نتائج معاكسة لما يريده المحلّل والكاتب.
يُضاف إلى ذلك أن هذه النزعة التبسيطية في البحث والتفكيك في قوام ظاهرة المقاومة العراقية تؤدي ـــــ من حيث شئنا أو أبينا وبغضّ النظر عن النيات ـــــ إلى مقدّمات خاطئة وإلى الاستنتاجات الأكثر ضرراً السائدة في الخطاب الطائفي التقليدي. لقد أحدث برنامج الاحتلال العام والشامل الساعي إلى تطييف كل شيء في العراق، بدءاً من البرلمان الناقص الشرعية، وحكومة المحاصصة الطائفية المفبركة بواسطته، وليس انتهاءً بجدران العزل الطائفي التي طالب الكونغرس الأميركي ذاته بالإكثار منها أخيراً، أحدث رجّة عميقة وأقرب إلى الزلزال في الفكر والتقاليد والممارسة والتصوّرات والعادات السائدة في المجتمع العراقي.
والحال فإنّ الحذر سيكون مطلوباً بشكل مضاعف عند تناول أية ظاهرة اجتماعية من منظور وطني مناهض للاحتلال، وخصوصاً وتحديداً عند تناول ظاهرة المقاومة العراقية للاحتلال.
وحين يقرّر بعض الكتّاب والمحلّلين أنّ الموجود الآن على الساحة، ومنذ احتلال العراق، هو المتحرّك على أرضية الاحتلال، حتى وإن أطلق الرصاص على هذا الاحتلال وقاومه، فليس لذلك من معنى سوى أنّ المشروع المسموح به احتلالياً لا يختلف كثيراً عن المشروع الذي يطمح إليه أعدى أعداء الاحتلال. فذلك هو مؤدّى أن يكون بديل الاحتلال حكماً فوقياً مفروضاً بقوّة السلاح واللحظة السياسية والمجتمعية الراهنة. فالمسألة ليست في شيعية أو سنية المقاومة، ولا يمكن حساب المكسب انطلاقاً من رصد هذه التحوّلات ونسبها، بل الخلاص الممكن والسبيل الوحيد ـــــ بحسب رؤية بعض الطامحين لخرق سقف الموجود والمكرس ـــــ هو في قلب الطاولة على الاحتلال وتقديم آليّة جديدة للبناء الوطني تعتمد التوافق والشمولية في التمثيل الشعبي الشامل، وصولاً إلى قيام كيان سياسي يكون نواة للدولة العراقية العتيدة، القادمة من التحت الاجتماعي، لا المفروضة من التفوّق الطائفي المسلّح، أو العميل للأجنبي.
وفي ما يختصّ بتجسّدات السياق الوطني التاريخي العراقي، فغالباً ما يُقال حين الحديث عن ظاهرة الاندماج المجتمعي وتحقُّق سيرورة الوطنية العراقية، إنّ المنطقة الغربية مرموز لها بمدينة الفلوجة الباسلة أو محافظة الأنبار لا تلخّص العراق، أو ليست هي العراق.
من الواضح أنّ هذه الملاحظة القادمة من ميدان علم الاجتماع التاريخي، التي تكرّرت بصيغ مختلفة العمق والكثافة في كتابات مشهورة بعضها لعالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي، وبالتحديد حول موضوعة الاندماج المجتمعي في العراق وجدلية البداوة / المدينية، سيُساء فهمها هنا لسببين: الأوّل هو أنها جاءت في سياق يساعد على سوء الفهم هو سياق الحديث عن ظاهرتي المقاومة والطائفية، والثاني هو أنها تُصاغ غالباً بمقدار قليل من الوضوح الذي قد يجعل البعض يقرأها كاستفزاز.
ومع ذلك فجوهر الملاحظة (الصحيح علميّاً) سيكون قليل الفائدة حقّاً، إن لم يكن ضاراً على الصعيد العملي، أي في بناء معسكر مناهضة الاحتلال، وخصوصاً أنه يأتي في غمرة سجال سياسي بحت لا يخلو من روائح الاستقطاب والتقويمات المعياريّة والمفاضلات العاجلة. إنّ القول بأنّ الفلوجة ليست العراق سيعني حتماً في القراءة المغرضة أنها ليست من العراق مثلما هو الجنوب العراقي «أرض السواد»، كيفاً بكيف، في حين أن القراءة الأقرب إلى الصحة هو القول بأن منطقة العْمارة مثلاً ليست هي العراق، لناحية اختلافها في خصوصيات ودرجات كثافة الاندماج المجتمعي والالتحام في السياق التاريخي والصيرورة الوطنية العراقية الشاملة...
وكما كان الفرات الأوسط قد لخّص العراق يوم كان شعلة الثورة العراقية الكبرى في العشرينيات، يمكن ويصح النظر إلى الفلوجة أو الأنبار بأنّها تلخص العراق المقاوم للاحتلال الراهن، مع تسجيل الفارق بين مقاومة الفراتيين القاعدية في العشرينيات، التي جاءت بعد انتهاء المقاومة الفوقية الرسمية التي قادها الأتراك العثمانيون. ويبقى للنقاش أنّ مقاومة المنطقة الغربية هي، من حيث الأهداف والمادة والأفكار، مقاومة بقايا الدولة العراقية والحكم الشمولي الذي أسقطه الاحتلال، أي إنها وخصوصاً في بداياتها، مقاومة فوقية، وإن الامر كل الأمر في تقويمها يتوقّف على رصد مآلاتها بعد ذلك...
* كاتب وصحافي عراقي