strong> خورشيد دلي *
على الرغم من تراجع حدّة التصعيد العسكري التركي تجاه شمال العراق، أبقت أنقرة قوّاتها في كامل التأهّب العسكري في المناطق الحدودية مع العراق وسط تهديد وتلويح دائمين باجتياح شماله.
المتابعون للأزمة الأخيرة بين تركيا والأكراد يرون أنّ مسألة إبقاء القوّات التركية في حالة تأهّب دائم هي بمثابة مطرقة ورسالة واضحة من أنقرة إلى أكراد العراق مفادها أنّ مستوى الحكم الذي بلغه أكراد العراق وصل إلى النقاط الحمراء التركية.
وفي مواجهة الطموحات الكرديّة فإنّ أنقرة تبدو أمام مجموعة من السيناريوهات التي قد تعيدها إلى شمال العراق، من أهم هذه السيناريوهات:
1ـــــ سيناريو «القبرصة»: أي استعادة تجربة قبرص التركية عام 1974 عندما أمر رئيس الوزراء التركي الراحل بولند أجاويد القوّات التركية باجتياح شمال قبرص ذات صباح بحجّة الوقوف إلى جانب أتراك قبرص في مواجهة إجراءات الطرف اليوناني. ويبدو أنّ حدوث مثل هذا السيناريو مرتبط بأكراد العراق أكثر منه بحزب العمّال الكردستاني، بمعنى أنّ الشرارة التي قد تدفع أنقرة إلى اعتماد هذا السيناريو قد تكون قضية كركوك التي بقي نحو شهر على موعد إجراء استفتاء مقرَّر بشأن حسم مصيرها. وكركوك بالنسبة إلى تركيا أكثر من قضية تتعلّق بوجود ومستقبل تركمان العراق بل بمستقبل الدولة الكردية العراقية العتيدة.
2ـــــ سيناريو «العثمنة»: لا يخفى على أحد أنّ انهيار النظام المركزي في بغداد على وقع القصف الأميركي تزامن مع تسلّم التيار الإسلامي القريب من العثمانية التاريخية مواقع السلطة في تركيا تدريجاً. ومع هذا التحوّل بدأنا نشهد ما يمكن تسميته العثمانية الجديدة التي هي حصيلة من الأيديولوجية القومية الطورانية والإسلامية والأتاتوركية معاً. وعلى وقع هذه الأيديولوجيا، بدأ البعض في أنقرة يتحدّث عن حدود تركيا التاريخية التي تمتدّ من بحر الأدرياتيكي إلى سور الصين. وآخر هذه المظاهر نشر صحيفة «كونش» التركية أخيراً خريطة لتركيا تضمّ شمال العراق وسوريا وأجزاءً من اليونان وأرمينيا وقبرص ومناطق حدودية من إيران تحت عنوان: هذه هي حدود تركيا الكبرى.
وقبل ذلك، دعت صحيفة تركية واسعة النفوذ أكراد العراق إلى التفكير بأنّ أربيل أو بغداد هي عاصمتهم الطارئة بينما اسطنبول هي عاصمتهم التاريخية والطبيعية. وخلال الأزمة، أشار العديد من الكتاب الأتراك إلى الوضع القانوني الشاذ لشمال العراق بالنسبة لتركيا وتذكيرهم مراراً بضرورة تصحيح الوضع القانوني لاتفاقية عام 1926 بين تركيا وبريطانيا، التي تنازلت بموجبها الأولى عن ولاية الموصل للثانية.
ما يمكن قوله هنا، هو أنّ طموحات التيار العثماني الجديد الصاعد لا تستبعد العودة إلى شمال العراق بحجج ومزاعم تاريخية وجغرافية.
3ـــــ سيناريو الأمن: العنوان الأبرز للأزمة الأخيرة بين تركيا والأكراد كان الأمن. والمقصود بالأمن هنا هو حزب العمّال الكردستاني، العدو اللدود لتركيا. في الواقع، يمكن الجزم بأن تركيا التي قامت خلال العقدين من القرن الماضي بـ24 عملية اجتياح عسكرية لشمال العراق لملاحقة عناصر حزب العمّال، تدرك أكثر من غيرها أنّ أيّة عملية عسكرية جديدة ضدّ معاقل الحزب المذكور في شمال العراق لن تؤدّي إلى التخلّص من هذا الحزب حتى لو أدّت العملية إلى تدمير مواقعه وذلك لأسباب لا يتّسع المجال هنا
لذكرها.
وبناءً على ذلك فإنّ سيناريو الأمن هنا يبقى قائماً، وقد يكون مناسباً في الظرف السياسي الحرج، وهو خيار مرتبط بأكراد العراق، كأن يبادروا إلى إعلان فدرالية قومية خارج الدستور العراقي أو حتى إعلان دولتهم القومية. عندئذ، لن تجد أنقرة أفضل من إشهار العامل الأمني المتمثّل بحزب العمّال في شمال العراق حجّة لاجتياحه.
4ـــــ سيناريو الفراغ: ترى تركيا أنّ الوضع الذي حصل عليه أكراد العراق، هو مؤقّت نتج في ظلّ الاحتلال الأميركي للعراق، وهي تبدو مقتنعة بأنّه مع رحيل الاحتلال ينبغي أن يزول هذا الوضع الطارئ في الشمال لمصلحة العودة إلى النظام المركزي بغضّ النظر عمّن يحكم بغداد، لأنّ الجوهري بالنسبة إليها هو عدم السماح بولادة دولة كردية تحت أي ظرف. وعليه فإنّ الإبقاء على الحشد العسكري مع العراق هو من سيناريوهات العودة إلى شماله إذا قرّرت الإدارة الأميركية سحب قوّاتها من العراق، وخصوصاً أنّ نظرية منع الفوضى أو ملء الفراغ (تحدّث عنها الرئيس الإيراني أحمدي نجاد في وقت سابق دون عن الإفصاح عن تفاصيلها) تبدو مبرَّرة إقليمياً وجذابة سياسياً.
نقطة واحدة ينبغي الإشارة إليها هنا، هي أنّ هذه السيناريوهات رغم اختلاف عناوينها، تبقى مرتبطة بعضها ببعض لوحدة الأسباب السياسية والتاريخية والجغرافية والأمنية. وإذا كانت المعادلة التركية هنا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالولايات المتّحدة نظراً لطبيعة العلاقة بين واشنطن وأنقرة، فإنّ الأخيرة لا تبدو في وارد هذه المعادلة بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي على الرغم من أنّ تركيا تعلن تمسّكها بخيار العضوية الأوروبيّة ليلاً ونهاراً، في وقت لا تزال فيه مشكلة (الاحتلال التركي لشمال قبرص) من أهمّ عقبات قبول تركيا في العضوية الأوروبية.
* كاتب سوري