ياسين تملالي *
اليوم، واستحقاقات 29 تشرين الثاني المحلية على الأبواب، يتكرّر سيناريو استحقاقات 17 أيار النيابية. لا اكتراث للجزائريين بـ«مسار تجديد المؤسسات» كما يحلو للنظام أن يسمي انتخاباته: مقار حزبية شبه فارغة واجتماعات عامة لا يطرقها سوى المتسكعين ممن تلح كاميرات التلفزيون الرسمي على إظهارهم بمظهر المنصتين المهتمين. أما «النقاش السياسي»، فمحصور في تبادل الاتهامات بـ«التحايل على القانون» و«الرغبة في تزوير اختيار الشعب».
في أيار الماضي، فُسر عزوف الجزائريين عن الانتخابات بعدم إيمانهم بأهمية دور البرلمان في الحياة السياسية وقلة معرفتهم بصلاحياته. تُرى لماذا يعزفون اليوم عن انتخابات يتبارى فيها مرشحون لتسيير حياتهم اليومية من نقل مدرسي وصرف صحي ونظافة عامة؟
قد يقال إن الجو العام لا يشجع على الاهتمام بمبادرات النظام أياً كانت هذه المبادرات، فما يميز الوضع الأمني هو تبخر حلم الاستقرار الذي وعد به عبد العزيز بوتفليقة الجزائريّين في 1999، وما يميز الوضع الاجتماعي هو تزايد الاحتجاجات العنيفة في المناطق المحرومة وما يصاحبها من قمع واعتقالات. أما السمة الطاغية على الوضع الاقتصادي، فهي التناقض الصارخ بين اغتناء الدولة الفاحش بفضل ارتفاع مداخيل النفط والفقر الزاحف على شرائح اجتماعية عريضة.
إلا أن هذا الجو القاتم لا يفسر وحده عدم اكتراث الناخبين بـ«عرس الديموقراطية» الوهمي، فقد كان من الممكن أن يحفزهم في ظروف أخرى على الالتفات إلى ما تخططه لهم السلطة وما يقترحه عليهم السياسيون. وهم إذ لا يبالون ببرامج المرشحين ولا حتى بمعرفة أسمائهم، يبدون في الحقيقة توجسهم من السياسة كما صنعتها السنوات العشر الأخيرةمنذ 5 حزيران 1997، تاريخ أوّل استحقاقات في ظل قانون الطوارئ، لم تعد الانتخابات تكشف عن قدرات النظام التزويرية الخارقة بقدر ما أصبحت تكشف عن تحول الكثير من المنظمات السياسية إلى هياكل متآكلة لا تجتذب إليها أحداً، ولا أكثر إثارة للسخرية من تشنج خطب المرشحين وحماستها في قاعات فارغة إلا ممن رحم ربك من مدفوعي الأجر والآملين في «الثواب».
عالمان متوازيان لا يلتقيان: عالم الأحزاب وعالم المواطنين. قد يكون هذا الكلام صادماً. فالسلطة تردّد منذ سنين أغنية «لا جدوى التحزب» بهدف «تأطير التعدّدية» بما يخدم مصالحها: مجازاة «المحسنين» المتملّقين والتضييق على «المسيئين» ممن تشتمّ فيهم رائحة التشكيك في حكمة «فخامة الرئيس». إلا أن تراجع صدقية الأحزاب بما فيها أحزاب المعارضة، تحوّل إلى معطى رئيسي من معطيات الساحة السياسية، ولا يقلل من حقيقته استغلالُه من طرف عبد العزيز بوتفليقة لتصوير التعددية كارثةً ألمّت بالبلاد في 1989، بعد عهد طويل من الرخاء في كنف الحزب الواحد العتيد، جبهة التحرير الوطني.
في ماض ليس بالبعيد، حتى في جبهة التحرير، «حزب الوصوليين» كما يسمى عادة، كان من الأعضاء من يمكن وصفهم بـ«المناضلين»، أناس يؤمنون إيماناً صادقاً «غير انتهازي» بأن لا مفر من ربقة الجيش دون فوضى ودون ضياع. أما اليوم، فقد قلّ «المناضلون» حتى في أحزاب المعارضة، وتحول الكثير منها إلى مراكب عبور نحو الضفة الأخرى، ضفة «المشاركة في المؤسسات»، وما تدره على «المشاركين» من امتيازات.
في ماض ليس بالبعيد كان الصراع للحصول على «تزكية للترشح» محصوراً في الحزبين الحكوميين، جبهة التحرير والتجمع الوطني الديموقراطي. أما اليوم، فالكثير من منظمات المعارضة تعيش كلما اقتربت الانتخابات أزمات عارمة محورها «إعداد قوائم الترشيحات». حتى منظمات الإخوان المسلمين لم تنجُ من هذه الأزمات، وهي التي أمضت سنين طويلة تتساءل عن مدى توافق مفهومي «الانتخاب» و«البيعة» ومدى تلاؤم الديموقراطية الانتخابية مع شرع الله المصون.
لم يعد النضال في صفوف المعارضة توزيعاً للمناشير في الشوارع ولا حديثاً مع الناس ولا اهتماماً بمعرفة أحوالهم. لم تعد تحدوه الرغبة في «تقسيم عادل لثروات الوطن» ولا الأمل في «تغيير الأوضاع». أصبح هو التنديد العلني بـ«احتكار المناصب المنتخبة من طرف المناضلين» والمطالبةَ الصاخبة بـ«توزيع أعدل» لما توفره السياسة لأهلها من منافع، أقلها بهرجة سيارة رسمية يقودها سائق رسمي.
لم يعد الحزبان الحكوميان في حاجة للدفاع عن سياستهما، فلا أحد يتصدى لها بالنقد ولا حتى خصومها المعارضون. كذلك حال الكثير من أحزاب المعارضة: لم يعد شغلها الشاغل شرح «مشاريعها البديلة» للناخبين، بل ترقيةَ أكبر عدد ممكن من كوادرها في مختلف أهرام النظام.
لم تروض هذه الأحزاب تماماً، لكنها أدمجت أيما إدماج في خطط النظام. حتى خطاباتها الراديكالية أضحت جزءاً من السيناريو الرسمي، سيناريو «الديموقراطية الواسعة» المراقَبة. لم يبق لها من استقلالية سوى استقلالية البكاء على «تهميشها»، وكما لو كانت السلطة رب العائلة السياسية الذي يجب استعطافه والاستنجاد به لا رفض تشبثه بالحكم منذ عشرات السنين.
ما زالت هذه الأحزاب تندد بسوء أحوال البلاد، إلا أن نبرة تنديدها أصبحت مملة روتينية، نقرأ فيها الاستسلام للأمر الواقع، واقع عجزها عن أن تكون بديلًا، وتحولها إلى عُصب منغلقة، بزعاماتها المتصارعة ونقاشاتها «الداخلية» التي قد لا تعني للجزائريين شيئاً سوى صحة الخطاب الحكومي عن «مضار التعددية الفوضوية» وواجب الحد منها.
هذه هي حال المعارضة كما تكشفها المواعيد الانتخابية منذ سنوات. لم يعد يعنيها «تداول الحكم» ولا «إحلال الديموقراطية»، فزعاماتها هي عينها لم تتغير منذ ولادتها، والديموقراطية السائدة في صفوفها هي ديموقراطية طرد المخالفين في الرأي والتشهير بهم في وسائل الإعلام.
ترى ما حاجة النظام بتعديل قانون الأحزاب؟
* صحافي جزائري