strong> سلام الكواكبي *
تكاثرت في الآونة الأخيرة اللقاءات على المستوى الأوروبي للحديث عن هموم الأمن الأوروبي وربطها باحترام حقوق الإنسان في القارة الأوروبية وفي بلدان جنوب المتوسط، العربي منها على وجه الخصوص. ومما لا شك فيه أن الهم الأمني، مضافاً إليه موضوع الهجرة، يشكلان الهاجسان الأساسيان في مجمل المشاريع المطروحة سياسياً واقتصادياً في حلقات النقاش وفي حلقات العصف الذهني. وتتميز هذه المبادرات بتشريكها لأهل الجنوب رغم وجود واضح لاختلافات عميقة في وجهات النظر، وكذلك في النيات. ولكن يسجل لهذه المبادرات رغبتها في مقاربة الموضوع بنظرة أقل أورو ـــــ أوروبية مما سبقت ممارسته.
ويتطور من خلال هذه الحوارات مفهوم الأمن الإنساني ليرافق أو يتجاوز مفهوم أمن الدول. وقد بدأ التطور في الحديث عن هذا المفهوم منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي بتأثير من «الآخر» الغربي. وهذا المفهوم الجديد ـــــ القديم، يحمل في ما يحمل إضافة إلى الحريات الأساسية، حقوقاً جديدة بالمعنى الطرحي، وهي تخص الحق في بيئة مناسبة وفي نظام صحي وفي الترفيه وفي الحماية من الاعتداءات وفي المساعدة أثناء الكوارث وفي طعام متوازن وفي مسكن يحترم الذات الإنسانية، وبالتالي، أمن الإنسان... هذا الخطاب المستحدث، يبدو، رغم ما يحمله من غنى في المعاني وفي الأبعاد، كأنه محاولة لاستمالة دول الجنوب الحذرة حتى الرعب من كل ما يدور حول مفاهيم حقوق الإنسان وما يلوذ بها. فهو إذاً، محاولة للدخول من النافذة تاركين الباب للأنظمة تفتحه بخجل وتغلقه بوجل عند اللزوم.
وانطلاقاً من البحث في موضوع الأمن الإنساني، يتركز الحوار على علاقته بسياسات مكافحة الإرهاب (أي إرهاب؟) ومحاولات الحد من الهجرة، من خلال محاولة وضع معايير نظرية قلما تلتزم بها أغلب الدول، شمالي المتوسط وجنوبيَّه. وهذا التوازي في عدم الالتزام ليس تطابقياً بل نسبي، ولا يبرر لطرف ما يقوم به الطرف الآخر. فهل يفيدنا التركيز في الحديث عن عدم احترام الشمال لبعض من جوانب حقوق الإنسان، وخصوصاً في ما يتعلق بتطبيقه إجراءات مكافحة الإرهاب والهجرة؟ إن هذا الموقف هو هروب سهل للاختفاء وراء إصبع الآخر، مهما كانت جنسيته.
فهنا، يجب التمييز بوضوح بين تردٍّ لبعض من الممارسات في دول ديموقراطية من جهة، والتجاوزات الفاضحة والمفضوحة في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، التي لا تُعير أي اعتبار لمفاهيم حقوق الإنسان على اختلاف جذورها وأشكالها، ولمفهوم الأمن الإنساني بأبعاده المستحدثة في الدول اللاديموقراطية بامتياز من جهة أخرى. تنمو الانتهاكات القمعية إذاً محاولة الاستناد إلى الرغبة في مشاركة الشمال القلق في البحث عن حلول لمشاكله الأمنية، بما فيها الهجرة، إذ أضحت لا تُرفق فقط بملف الأمن، بل تُقاس أحياناً من خلاله. وتحاول المؤسسات الحاكمة (أو بالأحرى، الأشخاص الحاكمون) أن تعبر عن تعاطفها مع ما يشعر به الشمال من أخطار، بأن تزيد حجم آلياتها الأمنية وفاعليتها وتزيد انتهاكاتها لمجمل الحقوق، ما يدفع ببعض أطياف المجتمعات الرازخة تحت القمع من الوزن الثقيل، بالقيام بربط صحيح (وساذج في الوقت نفسه) بين ضعف الحريات وتحالف أنظمتها المعلن وغير المعلن مع هذا الغرب في الشمال. فهو صحيح لأنه لا يلقى التنديد أو الرفض المبدئي من الآخر الديموقراطي نظرياً، الذي يدافع في مجالسه الخاصة، أكثر من العامة، عن بعض مظاهر منع الحريات في الجنوب، معللاً إياها بضرورة مكروهة لردع التطرف والمتطرفين. إلا أن هذا الحكم القطعي على الديموقراطي الخائن لمبادئه يحمل في تكوينه سذاجته، لأن المعني يرتبط بهذا الطرح فقط في خطابه «الخائف» وليس في تحليله العقلاني، إن لجأ إليه، أو في محاورته لعمل مؤسساته التشريعية والمدنية والثقافية. فهناك إذاً مساحات هامة لكي يتراجع بعض الواهمين عن طروحاتهم ويتركوا المجال لتعبيرات تنديدية واضحة تدعم مطالبات «الجماعة» بتوفر الحقوق والأمن الإنسانيين.
الربط الآخر الذي تحمل مجتمعاتنا براءة اختراعه وتطويره، ينطلق من محطة خصوصياتنا ليسير على طريق تاريخنا وتراثنا، وليتوقف في استراحات نضالاتنا ولينتهي به المطاف إلى تبني، بإرادة غير معلنة ولكنها متحققة، لخطاب السلطات الحامضي والقمعي والرافض لكل محاولة إصلاح بالطرق السلمية، والباحث دائماً عن عدو عنيف يجعل من معركته معه أحد أسس شرعيته، ويُقصي بالتالي أصحاب الطروحات الشرعية واللاعنفية. ولقد تطورت ثقافة مجتمعية، تتماهى إلى حد بعيد مع خطاب الآلة القمعية، وترافق الحديث عن حقوق الإنسان وعن الأمن الإنساني، بحيث تربطهما بمحاولات خارجية تحمل في ما تحمل بذور الانحلال في مجتمعاتنا (المتماسكة) وتستعمل حججاً واهية لتُُعيد هيمنة «الآخر» على أمورنا، وعلى مقدراتنا الاقتصادية وعلى عقول ناشئتنا... هذه «الفلسفة» أضحت تؤثر أيضاً ببعض من مثقفي هذا الآخر المتعاطفين مع قضايانا العادلة (ومنها الحرية؟)، فهم يرفضون عند الحديث عن غياب الحريات أن ينضموا إلى «جوقة» الإدانة لممارسات بعض الدول التي يرونها، من خلال قراءتهم العاطفية للمشهد السياسي، أنها تشكل حصناً أخيراً في وجه إمبريالية متوحشة لا تتورع عن القيام بأية خطوة (ولم تتورع حتى الآن بالفعل كما في العراق) للسيطرة على مقدرات الجنوب. يرتبط الخلاص في الذهنية «الطيبة» لأولئك العالم ـــــ ثالثيين بالتخلص من هيمنة الآخر، والغربي على وجه الخصوص. وهم من منطلقهم النبيل يبتعدون عن الحقيقة التي يجب أن لا تُخفى عن أصحاب العقل، والتي ترى بلا تردد أن المؤسسات، سياسية كانت أو مجتمعية، الإقصائية والقمعية، هي شريك قوي، من حيث تدري أو لا تريد أن تدري، لكل إمبرياليات الأرض والفضاء، ولو أنها تبنت في خطاباتها وأدبياتها الطويلة والمملة عكس ذلك.
وفي النهاية، هذه الملاحظات لا تبرّئ حاملي خطاب «الإصلاح بأي ثمن» وبالأخص «المتحولين الإيديولوجيين الجدد». فهم يقومون ربما بوضع الوقود في محرك تنامي القمع والاقصاء، وخصوصاً عندما يتنطحون لمقاربة أمور المنطقة متبنين خطاباً تحريضياً ومتماهين مع أعتى الغربيين الذين يمثلون أقلية في مجتمعاتهم، متلذذين بمدح أعمى للآخر في كل ما اقترف، لأنه صاحب «مشروع نهضة» فشلنا نحن في اللحاق بقطاره أيما فشل.
* باحث سوري