strong>هشام نفاع *
وراء مختلف أشكال الضجيج السياسي، يواصل الاحتلال الإسرائيلي إدارة شؤونه في الضفة الغربية وتعطيل شؤون أهلها (وإدارة تعطيل شؤون قطاع غزة «من الخارج»)، بطريقة منظّمة جدّاً. وإذا كان مصطلح الاحتلال قد بات ضبابياً، بالأحرى إذا كان الاحتلال قد تحوّل إلى مصطلح ضبابيّ، لشدّة ما جرى حشره في الشعارات «المتصدّية» له و«علكه» (في البيانات والتصريحات والتعليقات والتعهّدات و«التعبير عن القلق»، العربية منها والدولية)، فهو يُمارَس على الأرض بدقّة عالية. لا يزال يقتطع ويصادر عينيّاً ما يقع من أرض تحت سيطرته العسكرية المتواصلة منذ أربعة عقود.
كيف هذا؟ ما معنى البحث عن السيطرة العينية على ما يسيطر عليه عسكرياً؟ أجل، فهناك طبقة مهمة في بنية هذا الجهاز تحوّله إلى ملموس ومباشر ومكشوف، اسمها الاستيطان.
في تسعينيات أوسلو، حاول عدد من القادة الفلسطينيّين، ممن لم يفترشوا مناصب سلطة، التحذير من التعاطي المتساهل مع قضية الاستيطان وإرجائها. وكم كرّّر د. حيدر عبد الشافي، القائد ثاقب البصيرة، الذي وافته المنيّة منذ أيّام هذا التحذير. واضحٌ أن هناك قضيتين عظيمتي الأهمية إلى جانب الاستيطان، هما القدس واللاجئون. لهاتين القضيّتين قوّة وجدانية مفهومة، توازي قوتهما الفعلية الحقيقية. والوجدان المركّب مهم في السياسة بالتأكيد. أما الاستيطان الموزّع، بل المتفشّي في شتّى الاتجاهات، فيُدار ويُلاءَم ويؤَقلَم بدهاء، حتى يكاد يتخفّى في السيرورة الاحتلالية كواقعة طبيعية. والدليل على ذلك «تطبيع الاستيطان» عبر اقتراح اسرائيل إبقاء معظمه في كُتل تحت سيطرتها، مقابل دفعها تعويضات، وهو ما لم يلاقَ بما يكفي من رفض واضح.
حفاظاً على هذا المشروع الاستيطاني حصراً، جاء مشروع جدار الضمّ والتوسّع، كأفعى ضخمة في أرض الضفة الغربية. وتحوّل هذا الواقع الاستيطاني في الذهنية الإسرائيلية إلى أمر واقع، إلى حدّ أن وزيرة الخارجية تسيبي ليفني تجرّأت على التصريح بأنّ الجدار سيكون حدّاً سياسياً (كانون الثاني 2005)، وهذا خلافًا لما تعلنه حكومتها رسمياً من أنه «جدار أمني لا غير».
في المقابل، كانت هناك نضالات فلسطينية محلية مثابرة، تحوّل بعضها إلى أسماء حركية للإصرار والعمل النضالي الشعبي المنظّم. هذا على الرغم من أن الجانب الأبرز للانتفاضة، ذلك المسلّح، أبعد هذا النوع من النضالات إلى الهامش، وأبعد بالتالي شرائح فلسطينية واسعة عن الانخراط الفعلي في النضال. أبرز تلك الأسماء هو بلعين. تلك القرية الجبلية الصغيرة قرب رام الله، والتي لم يتوقّف أهلها ومناصروهم عن الاحتجاج أسبوعياً، كل يوم جمعة، على امتداد سنوات. وحكمت المحكمة الإسرائيلية العليا مطلع هذا الشهر بتفكيك جزء من الجدار الذي نهب نحو 1700 دونم من أرض القرية. بلعين حقّقت انتصاراً مهماً في معركتها. انتزعت اعترافاً من سلطة إسرائيل بمطالبها. خلقت صداماً بين سلطتين إسرائيليتين: التنفيذية والقضائية. مع ذلك، كما أكّد متحدث من اللجنة الشعبية ضدّ الجدار، فالنضال لم ينته.
حالياً، نحن في انتظار الاقتراحات البديلة لمسار الجدار التي سيقدّمها جهاز الاحتلال. الأهالي هنا يعلمون بتجربتهم وحكمتهم أنّ القرار في النهاية سيظلّ منوطاً بمحكمة تابعة للدولة التي تحتلّهم. قد تُنصف هنا وهناك، لكن مشروع الاحتلال يبقى النقيض الأساس لمصالحهم وحياتهم الكريمة، ولهم فيما وقع لخمس قرى وسط الضفة عبرة:
ففي أيلول 2005، أمرت المحكمة دولة إسرائيل، ممثلة بوزارة «الأمن» والجيش، بتغيير مسار مقطع الجدار الاستيطاني قرب مستوطنة ألفي منشيه، المُشيّدة جنوبي مدينة قلقيليا، وهو ما جاء بغية ضمّ المستوطنة، بأوسع مساحة ممكنة، إلى «الجانب الإسرائيلي» من الجدار.
جاء ذلك القرار بعد التماس كانت قد قدّمته خمس قرى فلسطينية ضد الجدار الذي يهدّد بسجنها في مَعزل مغلق يمزّق حياتها ويدمّر مصادر عيشها وخدماتها التي تتلقاها في قلقيليا خصوصاً. في حينها،عُدّ القرار، الذي شمل أمراً بتفكيك جزء قائم من الجدار واستبداله بآخر، سابقة عادت بمدائح لافتة على المحكمة لـ«جرأتها».
في أعقاب ذلك، قدّم جهاز الاحتلال مقترحات جديدة لتغيير مسار الجدار، لم تغيّر من واقع انتهاك حقوق أهالي القرى الخمس: رأس الطيرة، وادي الرشا، مغارة الضبعة، عرب أبو فردة وعرب الرماضين. هنا، اعترض الملتمسون على تلك المقترحات. وكما كان متوقّعاً، رُفض اعتراضهم، فالتمسوا ثانية. لكن المحكمة الإسرائيلية العليا اختارت أواخر آب الماضي قبول أحد مقترحات جهاز الاحتلال بكل ما يعنيه من بشاعات.
ما فعلته المحكمة هو أنها أخرجت ثلاث قرى من المَعزل المخطّط، لكنها أبقت أراضيهم التي يعتاشون منها داخله، وسجنت فيه قريتي أبو فردة والرماضين.
الحقائق كالتالي:
المسار الجديد للجدار يواصل سجن قريتين في «الجانب الإسرائيلي» من الجدار، ويفصل القرى الثلاث الأخرى عن قسم واسع من أراضيهم. تطبيق مخطط الاحتلال سيؤدّي إلى تدمير 350 دونماً من الأراضي المشجّرة. كذلك، ستظلّ خلف الجدار 87 قسيمة أرض مساحتها الإجمالية 2500 دونم مغروسة بأشجار الزيتون واللوز. القسائم تعتاش منها مئات العائلات، لذلك فإن مسار الجدار يمسّ بأملاك ومصدر رزق وحرية وحركة السكان. وسيتفاقم انتهاك حقوقهم نتيجة شقّ شارع سيخترق أراضيهم هو الآخر. وبفعل قرب الجدار من بيوت السكان، فهو يهدّد حياتهم ويمسّ بامكانات التطور المستقبلي للقرى.
من جهتهم، وفي محاولة للتخفيف من فداحة ما يُلحقونه بالسكّان الفلسطينيين، أورد ممثلو جهاز الاحتلال أمام المحكمة ادّعاءً أنّ أهالي القريتين السجينتين يعملون لدى إسرائيليين، ولدى مستوطنة ألفي منشيه بالذات. يبدو الأمر باعثاً على الطمأنينة، فالسكان سيجدون عملاً ومصدر معيشة... لكن يكفي قليل من التمعّن لرؤية مدى إجرامية هذا الواقع المعبّر عنه في ادّعاء الدولة.
أمامنا صورة قمعيّة عديدة الطبقات. فالاحتلال مفروضٌ في المستوى الأول بكل تجلياته، تحته تأتي سيطرات استيطانية متعدّدة أكثر تحديداً في مواقع جغرافية محدّدة. وتحت هذه السيطرات، التي تبدو كأنها على الأرض فقط لأجل «الأمن»، هناك سيطرة طبقيّة على سكّان فلسطينيين فقراء جرى استبقاؤهم في معازل للقيام بوظيفة القوّة العاملة السوداء الرخيصة لدى الأسياد المستعمرين.
لكن المحكمة العليا لخّصت موقفها بالقول المنحاز: «إننا لا نستخفّ بالمساس بالسكان الفلسطينيين الذي يعبّر عنه إقامة الجدار بمساره الجديد، وهذا المساس ضروري لأسباب أمنية (...) مع ذلك، رغم قسوة الانتهاك، لا يمكن القول إنه غير نسبيّ... لقد اقتنعنا بأنه لا يوجد مسار أقلّ مساساً يمكنه تحقيق الغرض الأمني».
تبدأ المشاكل في اللغة التي تتبنّاها المحكمة. فمستوطنة ألفي منشيه، وهي منشأة استعمارية بموجب القانون الدولي والإنساني، تتحوّل على ألسنة القضاة إلى: «بلدة إسرائيلية في منطقة السامرة (...) تبعد نحو 4 كيلومترات عن شرق الخط الأخضر». فليس الاحتلال وحده من يبتلع الخط الأخضر واليابس، بل إن منطق وتوجّه الهيئة القضائية الإسرائيلية الأعلى يوفّر غطاءً متيناً لهذا الواقع الكولونيالي المفروض بالقوة. من هنا يصبح طريق المحكمة سالكاً لكي تضفي شرعية على شتّى الموبقات تحت مختلف التسميات والكلمات المعسولة.
الحجج الأمنية لا تنتهي طبعاً. وهي حجج مشتقّة من فرضية مسبقة، ضمنيّة ومستترة (متستَّرٌ عليها بالأحرى)، تنصّ على أنّ تحقيق الأمن ممكنٌ في واقع الاحتلال. فلست بحاجة سوى إلى القيام ببعض الترتيبات هنا وهناك حتى يتحقّق الأمن، من دون أن يكون لك موقف من حال الاحتلال بحدّ ذاتها، وبكلّ ما تعنيه من إنتاج فعليّ مباشر مخطّط وممارَس لواقع انعدام الأمن والأمان (للجميع!).
إنها فرضية مقبولة في المحكمة. وهي حين تتناول قضايا ترتبط بممارسات الاحتلال، فإنها تعمل تحت سقفه وفي نطاق منطقه، مهما تحرّكت بين النقاط وتراقصت بين السطور.
في جميع الأحوال، الاستنتاج هو أن النضالات الشعبية المنظمة، تلك التي تفسح مكاناً للمرأة والطفل والشاب وقطاعات مجتمعية متنوعة، قادرة على تحقيق بعض النقاط، وبوسعها كشف وفضح طبقات عديدة من السيطرة، وخلق السبل لمواجهتها. وحتى لو أن السطر الأخير سيظلّ (حالياً!) يُكتب بحبر سلطة إسرائيلية ما، فإن التصدّي لموبقات ومشاريع الاحتلال يُبقي جميع ملفات قضية فلسطين ساخنة وحقوقها مضيئة، وخصوصاً أنّ سياسات «الكبار» لم تحقّق الكثير حين راحوا يغوصون في وهم حيازة سلطة تحت الاحتلال هنا، وينقطعون عن الإرادة الشعبية هناك، ويقتتلون بشكل معيب، هنا وهناك.
إنّ مثل هذه النضالات الجريئة العريضة، هي السبيل لإعادة توكيد المعادلة: شعب أعزل إلا من حقوقه وإرادته في مواجهة جهاز احتلالي وحشي. ولكن من المؤسف أن الصورة الآن تتوزع على نوعين من الإفراط: إفراط في العسكرة وإفراط في التفاوض، وكلاهما ضارّ!
* صحافي فلسطيني