أرنست خوري
قراءة اجتماعيّة ــ اقتصاديّة بعيداً من الوهم الأيديولوجي


يقدّم فواز طرابلسي لقارئه بالإنكليزية مطالعة غير مسبوقة في شموليتها وتغطيتها للعوامل المختلفة التي صنعت تاريخ هذا البلد «الذي لا يحبّ الفقراء» (كما يحبّ كاتبنا أن يكرّر)، ليستنتج، (وهو اليساري الحالي لا السابق)، أنّ الطائفية في لبنان ليست معطىً بذاته يُنتج ما يُنتجه من آثار اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية، بل العكس هو الصحيح، إذ يعتبر أنّها «نتاج تاريخي كتشكيلات ما قبل رأسمالية أُعيد إنتاجها لتؤدي دوراً اقتصادياً كان مطلوباً منها أن تؤديه في الاقتصاد الرأسمالي الطرفي».
على رغم أنّ الكتابات القيّمة عن تاريخ لبنان الحديث ليست بقليلة، غير أنّ الكاتب أشار في مقدّمته إلى أنّ معظمها اعتمد على مصادر ومراجع مُستقاة عموماً من أرشيفات الدول الاستعمارية السابقة، وتمّ تجاهل تلك العائدة إلى «الصندوق الأسود» العثماني الغني بالمعطيات التي تدحض جملة من المسلّمات وتوضح كيف وُظّفت التشكيلات الطائفية في إطار تأليف شبكة زبائنية لإعادة توزيع الثروة.
تمكّن مؤرّخنا من التفرّغ لربط الاجتماعي بالاقتصادي والثقافي والسياسي، لنجد أنّ فوّاز طرابلسي، كاتب «العمل الاشتراكي وتناقضات الوضع اللبناني» عام 1969، هو نفسه صاحب «تاريخ للبنان الحديث» عام 2007، من حيث الثقة بأنّ الفروقات الطبقية والاجتماعية التي وصمت تاريخ البلاد منذ إدخال الأمير فخر الدين لصناعة الحرير إلى الجبل اللبناني، كانت التربة الخصبة لاندلاع الحرب الأهلية.
في فصله الأوّل (لبنان العثماني)، لا يعير طرابلسي للجدل الذي يثيره البعض (أبرزهم الدكتور سهيل القشّ) للتفريق بين النظام الإقطاعي (الذي عرفته أوروبا) من جهة، والنظام المقاطعجي من جهة أخرى، مكانة كبيرة. ويضيء في تلك الأجزاء من المؤلَّف على نقطة مركزية وهي العودة إلى أسباب التغيرات الديموغرافية التي عرفها الجبل في القرنين 17 و18. ويعتبر بأنّ ضرورات «الثورة» في نمط الإنتاج التي أشعلها فخر الدين بإدخاله صناعة الحرير من إيطاليا، كانت تقضي بالإتيان بمسيحيّي الشمال وكسروان وجزين وجبيل إلى الشوف الدرزي لتوفير اليد العاملة التي كان الدرزي يرفض «تلويث يديه فيها». وواكب هذه «الثورة» الديموغرافية، حركة أخرى لا تقل جذرية عنها، وهي أقلمة البنية التحتية اللبنانية لتواكب متطلّبات الاستثمار الأجنبي في سوق الحرير اللبنانية... وكان ما كان أيضاً من علاقات اجتماعية طبقية دخلت الكنيسة طرفاً رئيساً فيها. وعن عهود بشير الشهابي، يمرّ طرابلسي بسرعة على «الكليشيهات» التي طبعت حكمه، من تقلّب انتماءاته الدينية الى تصفية منافسيه، ليركّز على دور العاميات التي نشأت، وخصوصاً في لحفد وأنطلياس... ضدّ النظام الضريبي والنظام الإقطاعي عموماً.
ويولي طرابلسي سقوط الوالي محمد علي باشا الأهمية الكبيرة من حيث إنّ بريطانيا استفادت من سقوطه العسكري في تحرير التجارة في كامل أرجاء السلطنة، وعمّدت عام 1840 ببركة «عام دخول السلطنة اقتصاد السوق»، وهو ما كان له الآثار العظيمة في الجبل اللبناني من حيث: ــــ استفادة المسيحيين من علاقاتهم «المميّزة» مع الغرب في الإتيان بعائدات مالية ضخمة غيّرت جذرياً من نمط الإنتاج الاقتصادي السابق ومن سيطرة الإقطاع الدرزي، ـــــ ولادة الطبقة الوسطى المسيحية ونشوء مدن شكّلت مراكز تجارية وحرفية (جبيل، زوق مكايل، جونية، دير القمر...)، بينما ظلّ المجتمع الدرزي قائماً على ثنائية الدرزي/المحارب، ـــــ تحوّل الكنيسة إلى لاعب سياسي ـــــ اقتصادي رئيسي مع تملّكها ثلث أراضي المتصرّفية (الوقف)... من ثمّ حصول ثورة داخل صفوفها كسرت تقليد تعيين البطاركة من كنف العائلات الإقطاعية...
في فصله الثاني، يعتبر طرابلسي أن حربي 1842 و1860 شكّلتا نهاية النظام الإقطاعي وتاريخ الانتقال إلى صلب الاقتصاد الرأسمالي الطرفي، الذي عبّرت عنه انتفاضات شعبية داخل المجتمع المسيحي ضدّ مشايخ العهد البائد (آل الخازن، آل حبيش...). وفي ملاحظة ليست بجديدة، يعيد الكاتب (كما فعل قبله كمال الصليبي ووجيه كوثراني وأحمد بيضون...) جزءاً من أسباب الحربين الطائفيتين إلى سعي الكنيسة إلى تدفيع الدروز ضريبة مرتفعة داخل الشوف نفسه. ويعزو سبب تمدّد المجازر التي طالت نصارى دمشق عام 1860 إلى منافسة هؤلاء للمسلمين في التجارة والموقع الاقتصادي عموماً. أمّا تدخّل الإمبراطور نابليون الثالث لوقف المجازر، فكان متعدّد الخلفيات. فتحت شعار «فرض السلام»، كان الهدف الرئيس إعادة عمّال الحرير وتجّاره إلى نشاطهم.
أمّا الفصل الثالث، وهو الأغنى من حيث تقديم قراءة مختلفة عن السائد عن بذور الحروب من 1975 حتى 1990، فيفتح النقاش مع منظّري المارونية السياسية... ليصل إلى عهد فؤاد شهاب الذي يقدّم مطالعة دفاعية عنه مقرّاً بأنه فعلاً باني لبنان الحديث.
ولا يفوّت طرابلسي تقديم مساهمة تاريخية علمية عن سقوط بنك أنترا عام 1966، ليعزو أسبابه بشكل رئيسي إلى ارتباط، بل ارتهان الاقتصاد اللبناني وودائع مصارفه كلياً بالاقتصاد العالمي، باعتبار أنّ سقوط المصرف الذي سيطر لسنوات على مجمل أوجه الحركة الاقتصادية في البلاد، كان نتيجة ميل أسواق المال العالمية إلى تفضيل إلغاء موقع لبنان الوسيط والتوجّه إلى علاقات مباشرة بين طرفي العلاقة: الدول النفطية العربية من جهة، والمراكز المالية الغربية من جهة ثانية. ومع دخول لبنان العقد السابع من القرن الماضي، كان تردّي الوضع الاقتصادي ـــــ الاجتماعي والغلاء المعيشي وصلا إلى ذروتهما. ففي مطلع الستينيات، كانت 5 عائلات فقط تسيطر على قطاع الاستيراد والتصدير! أمّا الترجمة الطائفية لذلك، فعبّر عنها واقع أنّه في عام 1973 كانت السيطرة المسيحية على قطاع التجارة تبلغ 75.5 في المئة...
ضرب طرابلسي في كتابه موضوع النقاش هذا، نظريات عديدة تقول إنّ الطائفية معطىً قائم بذاته، وبنية تحتية تنتج ما تنتجه من أشكال للصراع. وهو كذلك، لم يستسلم للتبسيط القائم على أنّ الطائفية «وهم أيديولوجي» على ما ذهب إليه بعض منظّري اليسار التاريخيين. دحض الكتاب القوالب الأيديولوجية والدوغمائية لعناوين قدّمها كتّاب اليمين اللبناني عن «الأيديولوجيا المجتمعية» و«الفرادة اللبنانية» و«الحياد اللبناني» و«حروب الآخرين على أرضنا» و«قوة لبنان في ضعفه»...
يستحقّ القارئ العربي أن يحصل على نسخة معرّبة من الوثيقة القيّمة التي حصرها طرابلسي حتّى اليوم بين أيدي «نخبة» مثقّفة لا تقرأ سوى الإنكليزية، وقد يكون معرض الكتاب المقبل مناسبة مثالية ليوقّع خلاله نسخته العربية، وليلتقي جمهوره وطلّابه الذين ستزداد ثقتهم بما يكرّره دائماً من أنّ «هذا البلد لا يحبّ الفقراء»... وإن لم يصدّقوا، فعليهم بسؤال أهالي مخيّم نهر البارد!
* من أسرة الأخبار



العنوان الأصلي
A History of
Modern Lebanon

الكاتب:
فواز طرابلسي
الناشر
بلوتو برس