strong>يسار أيوب *
انشغل العالم يوم 25 كانون الأوّل 2006 بمتابعة نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية. كان التنافس حاداً ويأخذ أبعاداً أكبر بكثير من انتخابات لمجلس تشريعي مبتور لا يمثّل سوى أقلّ من ثلث الشعب الفلسطيني، سقفه الأعلى هو اتفاقيات أوسلو، وفضاؤه الاعتراف بالوجود «الأزلي» للدولة العبرية، من دون أي اعتراف مقابل سوى بوجود ما يُسمّى الفلسطينيّين. هل ينبغي التذكير بأنه، وفي جميع برلمانات العالم، تحكم القاعدة الأساسية القائلة إن الشعب مصدر السلطات وهذا الشخص المعنوي (الشعب) يفوِّض أشخاصاً ماديين (البرلمان) ليقوموا بدوره في الرقابة على السلطة التنفيذية وفقاً لمشيئته هو، لا مشيئتهم؟
تمخّضت هذه الانتخابات عن فوز ساحق ومفاجئ لحركة «حماس» (74 مقعداً من أصل 132)، بينما فازت فتح بـ45 مقعداً (الثلث زائداً واحداً). وبذلك، تكرّست شرعية جديدة لـ«حماس» أفرزتها صناديق اقتراع تحت مراقبة دولية ومحلية صارمة لانتخابات أشاد بسيرورتها العالم، غير أنه لم يقبل بنتائجها، وعرَّض الوطن والمواطن لحصار اقتصادي خانق ما زال مستمراً حتى الآن.
«فتح» التي قادت الفلسطينيين ومنظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1969، خسرت موقعها القيادي نتيجة الانتخابات. غير أنّ «حماس» خسرت موقعها المقاوم. تدرك «حماس» أن قطاع غزة والضفة الغربية لا يعيشان في كوكب منعزل، فللقيام بمهمات الحكومة والبرلمان والوزارات والدوائر الرسمية وحتى مؤسّسات المجتمع المدني المستقلة نسبياً، لا بدّ من الالتفات خارجاً. كان «الخارج» هذا يعني سابقاً دولاً عربية وإسلامية تتمتّع بإمكانيات مادية وسياسة داعمة لخط «حماس». غير أنه، وبعد الانتخابات، تحوّل إلى «كل الخارج»، الذي بات يُختصر بمنظّمة الأمم المتحدة التي لا تؤدي سوى دور جوقة المنشدين بالنسبة إلى السياسة الأميركية، وقد «ينشّزون» أحياناً أو يخرجون قليلاً عن اللحن الأصلي، ولكنهم يعودون ليختتموا المعزوفة بتفاصيل الوزن والمقام واللحن والكلمة عينها.
علقت «حماس» في عنق الزجاجة، فلا هي تمارس المقاومة بعد تمسّكها الشديد بالهدنة، ولا هي تمارس سلطة بعد فشلها في دفع العالم للتعامل معها، ولا تمارس الاثنين معاً. إن غياب النشاط العسكري المقاوم عن أجندتها، وسُبات كتائب القسام، والنشاط المكثّف والمبالغ فيه للقوّة التنفيذية كقوة أمن داخلي، غيَّب التمايز السياسي بينها وبين «فتح»، وبدأت شعبيتها لدى أوساط المؤيّدين للمقاومة بالانحسار، وبدأ العديد من مناصريها، كحركة مقاومة، بالتوجّه إلى قوى أخرى تبدو «أكثر جذرية» في مقاومتها كـ«الجهاد الإسلامي». فيما بدت «حماس»، في محاولتها ممارسة السلطة، كمن لا همَّ لديه سوى التناحر مع «فتح» حول تقاسمها أو الاستحواذ عليها. وفي صراعها هذا ارتكبت خطأها القاتل في 14 حزيران 2007 الذي تمثّل بالحسم العسكري في غزة.
يبدو أن القيادة السياسية لـ«حركة المقاومة الإسلامية» عانت الارتباك في قراءتها للموقف الفلسطيني والعربي والدولي، ولم تقدّر بشكل صحيح حجم الدعم الذي سيتلقّاه الرئيس محمود عباس إذا قرّر إدارة الظهر للاتفاق الموقَّع مع خالد مشعل في مكّة، وجميع التفاهمات الأخرى. ولم تنفع الدعوات المتكرّرة لقادة «حماس» في الداخل أو الخارج للحوار مع الرئيس، وتأكيدهم أنهم يعترفون بشرعيته وأنهم لم يقصدوا استهدافها، في حلحلة الأزمة مع مؤسّسة الرئاسة.
كان تفكير «حماس» يسير وفق طريقة فرض الأمر الواقع على الرئيس عباس من خلال السيطرة المسلّحة على غزة، لإجباره على إبعاد رموز أمنية فتحاوية راديكالية في معاداتها للحركة كمحمد دحلان ورشيد أبو شباك وغيرهم. بيد أنّها لم تكتف بالسيطرة على المقار التابعة لهؤلاء بل تعدّته إلى السيطرة على جميع المؤسّسات السلطوية بما فيه مقرّ الرئيس نفسه، وكذلك منازل رموز تاريخية فلسطينية كمنزل الرئيس عرفات ومنزل أبو جهاد الوزير وغيرهم. وخلال عملية السيطرة على القطاع وما تلاها، مارست «حماس» ما يمكن اعتباره أخطاء كبرى تصل إلى مستوى ممارسات أي نظام ديكتاتوري من اعتقالات عشوائية، ومنع التجمعات وتفريق التظاهرات السلمية بالقوة، وصولاً إلى منع صلاة الجمعة «السياسية»، كما سمتها، بل وحتى الأعراس لم تسلم من تدخل قوتها التنفيذية.
وبذلك أعطت «حماس» الرئيس عباس ذريعة قوية لاعتباره ما حدث «انقلاباً على الشرعية»، والقيام بخطوات من شأنها إنهاء هذا «الانقلاب»، كإقالة حكومة إسماعيل هنية، ومنع وصول الرواتب إلى الموظفين من مناصري «حماس»، وتأليف حكومة من دون العودة إلى المجلس التشريعي، وما إلى هنالك من خطوات وقرارات أضحى هدفها واضحاً: القضاء على «حماس» كقوّة سياسية وعسكرية رئيسية.
ومن ضمن ما قام به الرئيس عبّاس أخيراً في محاولاته تشديد الحصار على الحركة، إصداره قراراً (بقوّة القانون) بتعديل نظام الانتخابات يصبح بموجبه النظام النسبي هو المعتمد لانتخاب جميع مقاعد المجلس التشريعي بعدما كان النظام المختلط هو المعتَمد في الانتخابات الماضية وفقاً لنتائج جولات الحوار الوطني الفلسطيني في القاهرة على مدار عام 2005 التي جمعت معظم الفصائل الفلسطينية (نصف مقاعد التشريعي تُنتَخب وفق النظام النسبي، أي القوائم، والنصف الآخر وفق نظام الدوائر). ووضع القرار الجديد شرطاً هو الاعتراف بمكانة منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً للشعب الفلسطيني في برنامج أي قائمة مرشّحة لتحصل على قبول هذا الترشح. وبذلك فإن عباس وجّه ضربتين قويّتين لـ«حماس»: الأولى هي تقليص عدد مقاعدها المحتملة، إذ حصلت في الانتخابات الماضية وفق النظام المختلط على 29 مقعداً من أصل 66 مقعداً مخصصاً للقوائم، بينما حصلت «فتح» على 28 مقعداً، وهو فارق ضئيل جداً مقارنة مع الفارق وفق نظام الدوائر حيث حصلت «حماس» على 45 مقعداً، بينما حصلت «فتح» على 17 مقعداً فقط.
أما الضربة الثانية، فهي وضع «حماس» أمام خيارين صعبين: إمّا اعترافها بمنظمة التحرير وإعلان الاستقلال، وهو مطلب سياسي دأبت جميع الفصائل تقريباً على طلبه من الحركة، وإما عدم المشاركة في الانتخابات المقبلة.
وبغضّ النظر عن مدى «ديموقراطية» القرار ــــ القانون، فإن الرئيس عباس يبدو في أحسن الأحوال مجرّد قائد لـ«فتح» ليس إلا. وفي هذا السياق نفهم شروطه للحوار مع «حماس»، المتمثّلة في التراجع عن خطوة السيطرة على غزة والاعتذار للشعب الفلسطيني، وهو ما تراه «حماس» شروطاً تعجيزية، وخصوصاً أن أبو مازن أصبح ضيفاً دائماً على رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت في حين أنه يردد دوماً «لا حوار مع هؤلاء القتلة».
ولكن هل يمكن اعتبار ما قامت به «حماس» انقلاباً فعلياً على الشرعية؟ لا يمكن النظر إلى الشرعية الفلسطينية مجسّدة فقط في الرئيس ومؤسّسة الرئاسة، ذلك أن هناك الشرعية الأخرى وهي المجلس التشريعي المنتخب من الشعب، تماماً كالرئيس نفسه. فإذا كان الشعب مصدر الشرعية وليس اتفاقية «أوسلو» أو الاحتلال أو الاعتراف الدولي، فإن «حماس» تصبح من خلال وجودها الأكثري في المجلس التشريعي جزءاً أساسياً من الشرعية، والحكومة الفلسطينية التي هي في الأساس محصّلة توافق بين الرئيس والمجلس التشريعي، والتي كانت في المدّة الأخيرة قبيل الاستيلاء على غزة، حكومة وحدة وطنية، ويبدو من غير الممكن تصوّرها فاقدة للإرادة تحاول الحصول على مكتسبات وصلاحيات كان عباس نفسه أول المطالبين بها حين كان رئيساً للوزراء في زمن الراحل ياسر عرفات، وخصوصاً ما يتعلق بتبعية الأجهزة الأمنية لوزير الداخلية.
إنّ تصادم الشرعيات هو حالة مفهومة تماماً في أي ديموقراطية، غير أن الحالة الفلسطينية تختلف، والقاعدة الذهبية الفلسطينية المتعلقة بتحريم التقاتل الداخلي في ظلّ التهديد الخارجي، لم تُحترم هذه المرة. فالتبرير الحمساوي لخطوة غزة لم يكن مقنعاً لأحد، فإن كان الموضوع أمنياً بحتاً، لماذا اقتحمت مقار لا علاقة لها برموز «التيار المتصهين» داخل «فتح» على حد تعبيرها؟ كان بإمكان «حماس» حشر الرئيس عباس في الزاوية بتسليم السيطرة الأمنية على القطاع لقوات الأمن الرئاسي مباشرة بعد السيطرة عليه، وكان بإمكانها أيضاً التنسيق مع الفصائل الفلسطينية الأخرى قبل أو خلال عمليات السيطرة فيما لو كانت الخطوة أقل دموية.
بيد أنّه، والحال هكذا، لم تنجح «حماس» في استقطاب مؤيّدين لخطوتها من بين القوى الفلسطينية، بل وحتى إنها اصطدمت مراراً بشريكها الأيديولوجي الأساسي (الجهاد الإسلامي) في محاولتها الحفاظ على الهدنة مع إسرائيل، وبالتالي تجد نفسها وحيدة تماماً.
ما يمكن قوله هو، وبكل بساطة، إن الشرعيّتين الانتخابيّتين الفلسطينيّتين، دخلتا في صراع مرير قد تكون نهايته تدميرهما معاً، ففيما أضعفت إسرائيل المجلس التشريعي باعتقالها عدداً كبيراً من النواب الممثلين لحركة «حماس» فاق الثلث، قام الرئيس باستغلال الوضع لتمرير حكومة سلام فياض بتعطيل الجلسة المخصّصة لمنح الثقة لهذه الحكومة، وكان من حماس أن «قطعت رجل» مؤسّسة الرئاسة عن قطاع غزة، وحرمت الرئيس ممارسة السلطة على كامل الأراضي الفلسطينية. ولكن، وحتى بعد التضحية بالديموقراطية الفلسطينية الوليدة، يظل السؤال الأساسي معلّقاً: ما هو شكل الدور المركزي الذي يمكن أن تؤديه الشرعية الانتخابية لسلطة وطنية محدودة في ظلّ الاحتلال المستمر والاستيطان المتواصل؟
* باحث فلسطيني