عصام نعمان *
الأمن هاجس إسرائيل المزمن، والنفط هاجس أميركا المقلق. إسرائيل حاولت وتحاول ضمان أمنها بتفكيك وحدة محيطها الجغرافي والسياسي، لتوسيع رقعة استيطانها الديموغرافي والاستراتيجي. منذ عهد ديفيد بن غوريون، وإسحاق شامير وغولدا مئير، اشترطت إسرائيل لمصالحة العرب حدوداً آمنة معهم. الحدود الآمنة ليست جبالاً وودياناً ولا حتى جداراً فاصلاً. إنها حزام من جمهوريات موز هزيلة مركّبة على أساس إثني أو قبلي أو طائفي أو مذهبي، تزنّر به إسرائيل نفسها على امتداد المشرق العربي، من الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، إلى الساحل الشمالي للخليج العربي ـــــ الفارسي.
الولايات المتحدة الأميركية حاولت وتحاول ضمان أمنها النفطي بتعميم حضورها السياسي والعسكري على امتداد القارة العربية، من أجل وضع اليد على منابع النفط ووسائل استخراجه ومصبّاته وخطوط نقله وتسعيره وتسويقه وتدوير عائداته.
التخطيط الأميركي والإسرائيلي تقاطعا وتكاملا في مخطّطات مشتركة، أو على الأقل منسّقة، لضمان مصالحهما العليا من خلال تحقيق الأغراض الاستراتيجية الآتية:
أولاً، تفكيك الدول الموحّدة Unitary States في المنطقة، وتحويلها كياناتٍ إثنية وقبلية ومذهبية متناحرة، وبالتالي عاجزة عن إنشاء قوة سياسية وعسكرية مؤثرة.
ثانياً، استثارة الأقليات بمختلف أنواعها وتصنيفاتها ومواقع وجودها وانتشارها، ودعمها سياسياً وعسكرياً، سرّاً وعلناً، لتبقى في حال اشتباك دائم مع السلطات المركزية في الكيانات السياسية المصطنعة، من أجل إدامة حاجة هذه الكيانات إلى حماية أمنية أميركية، وربما إسرائيلية أيضاً.
ثالثا ، تعميم الحروب المتنقلة داخل الكيانات المصطنعة والمستحدثة وفيما بينها على امتداد القارة العربية .
رابعاً، ضمان الهيمنة الأميركية والإسرائيلية على القارة العربية المفكّكة، بإطالة أمد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والاحتلال الأميركي للعراق، وبإقامة سلسلة من القواعد العسكرية في دول عربية ذات مواقع مفتاحية.
خامساً، نزع النفط والغاز من ملكية القطاع العام في البلدان العربية المنتجة لهما وذلك بخصخصتهما، أي بنقل ملكيتهما إلى القطاع الخاص، وبالتالي إلى سيطرة شركات النفط والغاز الأميركية أو المتعددة الجنسية، وتدوير مردودهما وعائداتهما لتصبّ جميعاً في الأسواق المالية الأميركية والأوروبية، بغية السيطرة على عمليات الإقراض والتمويل والتثمير والاستثمار والتنمية المحلية والإقليمية.
في هذا الإطار، يمكن تفسير قرار مجلس الشيوخ الأميركي القاضي بتقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات إثنية ومذهبية متمايزة، بغالبية 75 صوتاً مقابل 23. صحيح أن راعي القرار السناتور الديموقراطي والمرشح الرئاسي جوزيف بيدن قدّمه على أنه المفتاح السياسي الذي سيتيح انسحاب القوّات الأميركية من العراق وتفادي انتشار الفوضى فيه، إلّا أنّ تصويت نحو 25 سناتوراً جمهورياً على القرار، يدلّ بوضوح على أنّه جزء من خطّة يعتمدها الحزبان الحاكم والمعارض من أجل تحقيق غايتين: وقف تصاعد الإنفاق علـى الحرب الذي لامس مبلغ 650 مليار دولار على مدى أربع سنوات، وضمان هيمنة الولايات المتحدة على العراق، وبالتالي على بقية أنحاء القارة العربية.
هكذا يتّضح أنّ المخطّط الأوروبي ـــــ الأميركي ـــــ الصهيوني القديم/الجديد، لا يزال قيد التنفيذ، وجوهره الحؤول بالقوة دون قيام قوة إقليمية مركزية في البرزخ الممتد بين الساحل الشرقي للبحر المتوسط والساحل الشمالي للخليج العربي ـــــ الفارسي. في هذا السياق كان قد جرى تفكيك الإمبراطورية العثمانية وتقسيمها إلى كيانات متعدّدة في الربع الأوّل من القرن الماضي، كما جرى فصم الجمهورية العربية المتحدة (وحدة مصر وسوريا) في النصف الثاني منه، واحتلال العراق في مطلع القرن الجاري. ويبدو أنّه في السياق نفسه، يجري الإعداد في الوقت الحاضر لضرب الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بما هي قوّة إقليمية مركزية متكاملة وقادرة، بسلاح نووي أو من دونه، على تهديد مصالح أميركا النفطية، وردع إسرائيل ولجم مخططاتها التوسّعية.
في مواجهة هذا الخطر الماثل، ما العمل ؟
لا أمل يُرتجى من معظم النظم السياسية العربية. ذلك أنّ بعضها مدين بوجوده وبقائه للولايات المتحدة، وبعضها الآخر إمّا متواطئ معها أو خائف منها إلى درجة ينعدم إزاءها أو يكاد أي إمكان عملاني لمواجهة الخطر الزاحف.
لا بدّ والحال هذه، من التوجّه نحو القوى الوطنية العربية الحيّة في مختلف الأوساط والشرائح القيادية والشعبية، لبناء أوسع الجبهات المحلية والإقليمية والقومية، بغية مواجهة المخطّط الإمبراطوري الأميركي الصهيوني. الحقّ أنّ شريحةً واسعة من القوى الوطنية الحية كانت قد تحملّت مسؤولياتها وباشرت مقاومتها الميدانية والمدنية في فلسطين ولبنان والعراق، وأصابت أحياناً، كما المقاومة اللبنانية، نجاحاً لافتاً في دحر العدو. ومع ذلك، فإنّ ثمّة حاجة ملحة لسدّ نواقص العمل المقاوم وتقوية فعاليته وتوسيع رقعة نشاطه. كيف؟ بالتنسيق الدؤوب والمثابر بين مختلف أجنحته وأذرعته، في سياق جهود متواصلة لتوليف جبهات محلّية وإقليمية وقومية فاعلة، وبتوسيع دوائر الاشتباك مع العدو وتزخيمه في كل الساحات وعلى جميع نقاط المواجهة وفي عمق الخطوط الخلفية.
على المستوى نفسه من الأهمية، تبرز ضرورة تدعيم التحالف الاستراتيجي القائم بين سوريا وإيران والمقاومة المعقودة اللواء لحزب الله في لبنان ولحركة «حماس» في فلسطين المحتلة، وحماية أطرافه سياسياً بالعمل الشعبي، وتقوية فعاليته القتالية بالتعاهد العلني القاطع أمام الأمّة جمعاء على اعتبار أي اعتداء أو حربٍ تُشنّ على أيّ من أطراف هذا التحالف الاستراتيجي اعتداءً أو حرباً على أطراف التحالف جميعاً، ما يستوجب ردّاً متناسقاً ومتكاملاً وفاعلاً فـي نطاق كلٍ منها وعلى مستوى المنطقة كلها، مع إمكان توسيع دوائر الاشتباك لتشمل ساحات وميادين ومجالات في العالم الأوسع.
إن المشروع الإمبراطوري الأميركي الصهيوني تحدٍّ بالغ الخطورة للعالم العربي والإسلامي برمّته وذو طابع مصيري، ومن شأن مفاعيل الصراع الذي يكتنفه أن تقرّر مستقبل المنطقة والقارة العربية لعقود وربما لأجيال قادمة. من هنا، تنبع ضرورة ارتفاع الجميع على الصعيدين الرسمي والشعبي، السياسي والعملاني، إلى مستوى التحدّي الخطير الماثل. ذلك أنّ نجاح الشعوب والقوى والقيادات المستهدفة في توفير وحدةٍ وتعبئة ومقاومة فاعلة وشاملة في مواجهته، سيكوّن بالتأكيد قوةً رادعةً للعدو، قد تحمله على إعادة النظر في خيار شن حربٍ مدمّرة ومكلفة لأطراف الصراع كما للعالم بأسره... أليس تفادي الحرب إنجازاً تاريخياً بحدّ ذاته؟
* وزير لبناني سابق