محمد مصطفى علوش *
تشهد العلاقة بين جماعة الإخوان المسلمين وذراعها السياسية (جبهة العمل الإسلامي) من جهة، والملك الأردني عبد الله وحكومتة من جهة ثانية، حالاً من التوتّر وانعدام الثقة. ورغم حسم الحركة لخياراتها بخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة بعد حصولها على ضمانات من الملك ورئيس الحكومة بممارسة الشفافية التامة خلال العملية الانتخابية، فإنّ التوتّر وانعدام الثقة لا يزالان على حالهما بين الطرفين، بعدما تفجّرا سيلاً من الاتهامات المتبادلة على خلفية انسحاب الحركة في الساعات الأخيرة من التنافس على المقاعد البلدية، مبرّرة خيارها بعلمها بخطة أعدّها النظام لاستئصالها وتحجيمها بطرق غير مشروعة. وما لبث أن قامت السلطات الأردنية بتوقيف اثنين من كوادر «جبهة العمل الإسلامي» في تطوّر غير مسبوق، الأمر الذي يثير التساؤل بشأن آفاق العلاقة المستقبلية بين الطرفين، وإذا ما كان هناك نية ملكية لتهميش الحركة ذات القاعدة الشعبية والاجتماعية والخدماتية الواسعة في عموم المملكة.
وليتيسّر فهم طبيعة المرحلة القادمة بين الطرفين، لا بدّ من إلقاء نظرة على تاريخ الحركة وعلاقتها بالنظام.
نشأت حركة الإخوان المسلمين في الأردن عام 1946، على شكل جمعية خيرية، متبنّيةً أطروحات الإخوان في مصر. وكانت مشاركتها السياسية الأولى عام 1956، ثم عام 1963 في الانتخابات البرلمانية، وكانت آنذاك التنظيم الوحيد الذي يمارس العمل السياسي علناً. وعلى خلاف نظيرتها في مصر، فقد نسجت الحركة علاقة وطيدة مع البلاط الملكي منذ تأسيسها، حتى أنّ الأحزاب اليسارية والقومية اتهمتها بالتواطؤ مع الملك لتصفية الأحزاب اليسارية والقومية، والتضييق من خلال الأحكام العرفية التي أُعلنت في منتصف الخمسينيات.
واستمرّت العلاقة بين الطرفين على هذا المنوال، حتى بداية التسعينيات، حين أسّست الجماعة حزباً سياسياً سمّته «حزب جبهة العمل الإسلامي»، مستفيدة من إقرار قانون الأحزاب السياسية عام 1992. وما لبث بعدها أن انخرط الإسلاميون في الحكومة، وحصلوا على عدّة حقائب وزارية هامشية لمدّة قاربت خمسة أشهر. وتميّزت الحركة وحزبها باعتماد الديموقراطية والقدرة على تبنّي خطاب واقعي ومرن إزاء العديد من القضايا.
بقيت العلاقة بين الطرفين ما بين شدّ ودفع حتى عام 1994 تاريخ توقيع «اتفاقية وادي عربة»، وما تبعها من اعتراف بدولة إسرئيل، حيث عدّ الإخوان هذا التحوّل بمثابة خيانة للقضية الفلسطينة. ومنذ ذلك الحين، اتخذت العلاقة منحىً غير ودّي يقوم على الشك المتبادل. وما عزّز هذا التوجّه لدى النظام، أن الملك بدأ يشعر بتجذر الجماعة وصعودها واحتلالها مساحات اجتماعية وخدماتية كبيرة. ثم إنّ سلسلة الأحداث الجارية في المنطقة من التسعينيات من القرن الفائت، دفعت بالإخوان إلى قيادة المعارضة، وتدهورت العلاقة إلى حد مقاطعة الإخوان الانتخابات النيابية عام 1997.
ورغم أنّ الجمود كان يخيّم على العلاقة بين الملك حسين والحركة على خلفية الاعتراف بإسرائيل، إلاّ أن الأمور توقّفت عند ذلك الحد، حتّى جاء الملك عبد الله الذي لم يكتف بتجميد العلاقة مع الإخوان، بل بادر إلى الهجوم عليهم لتقطيع أوصالهم. وكان أوّل ما فعله لاحتوائهم، هو تحويل ملفّهم من ملف سياسي، (خلافاً لسياسة والده)، إلى ملف أمني تديره المؤسّسة العسكرية وتشرف عليه.
وتتبعاً لمسيرة الملك عبد الله السياسية، يمكن أن نستشعر طبيعة استراتجية النظام الأردني في احتواء الإخوان المسلمين، عبر محاولة التحكّم بالدور السياسي والاجتماعي للجماعة، من خلال ضرب البنية التحتية للحركة، وتفكيك أوصالها أفقياً. وقد لعبت الحكومة دوراً في القضاء على الإخوان، وتحجيم دورهم السياسي والاجتماعي في سنّ القوانين الانتخابية، كقانون «الصوت الواحد» الانتخابي، واعتماد مبدأ التعيين في الاتحادات الطالبية، والتحكّم في التعيينات الجامعية.
أمّا بالنسبة إلى البنية التحتية للجماعة، فقد جرى الاستيلاء على «جمعية المركز الإسلامي» (التي تعدّ عصباً حيوياً لنشاطها الاقتصادي والاجتماعي) والبدء بالتضييق على جمعية «المحافظة على القرآن الكريم»، وسن قانونَيْ «منع الإرهاب» و«الوعظ والإرشاد»، وجميعها تحاصر الخطاب الاجتماعي والسياسي للإخوان، وتحول بينهم وبين المساجد، وأخيراً ملاحقة الإخوان في لجان الزكاة، وإعادة تأليفها من خلال استبعاد جميع الإخوان المسلمين منها.
فضلاً عن محاولة النظام الفصل بين حركة الإخوان وذراعها السياسية (جبهة العمل الإسلامي) من خلال تصنيف الأولى بـ«الخط المعتدل» ، والثانية بـ«الخط المتشدد»، ولا سيما أن الأمين العام للجبهة هو زكي بني رشيد، أحد أقرب إخوان الأردن من حركة «حماس»، غير المرغوب فيها ملكياً، والأكثر اعتراضاً على توجّهات الحكومة الأردنية في العلاقة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وهو الذي تحدّى الحكومة والنظام في أكثر من مناسبة.
وكان ردّ الحركة الإسلامية على محاولة النظام التفرقة بين الحركة والحزب(الجبهة) قد جاء هذه المرة من الإخوان لا من جهة الأمين العام للحزب، حيث خرجت الجماعة عن صمتها، وشرعت بالهجوم على النظام عقب الانسحاب من الانتخابات البلدية في مقالة حملت عنوان: «لماذا قاطعنا العرس الديمغوائي»، بقلم المحرّر السياسي لموقعها الإلكتروني الرسمي، واتهم فيه صراحة المؤسّسة العسكرية بـ«إدارة المعركة ضد الإخوان، في حين يبقى دور الحكومات هو أن تكون واجهات لا تملك من أمرها شيئاً».
وتماشياً مع الشعار الأميركي «مكافحة الإرهاب»، أراد النظام تصفية حساباته مع الإخوان عبر سنّ قانون مكافحة الإرهاب حيث يحدّد القانون من تُطلق عليه صفة «الإرهاب»، سامحاً للمدعي العام باعتقال أي شخص يقع عليه الاشتباه بأن له علاقة بأي نشاط إرهابي، وفرض الرقابة على المشتبه بهم، ومنعهم من السفر، وتفتيش أماكن وجودهم، والسماح باعتقالهم لمدّة أسبوعين. كما سمح القانون المذكور بأن تنظر محكمة أمن الدولة بقضايا «الإرهاب». إلاّ أن ردّ الإخوان كان قوياً بدوره، فلم يكتفوا باعتبار القانون تجاوباً مع التوجّهات الأميركية المعادية للإسلام، وأن من شأنه أن يحوّل الأردن إلى دولة بوليسية، بل اعترضوا على محكمة أمن الدولة وعملها، وندّدوا بانتهاك حقوق الإنسان في السجون الأردنية، وأظهروا تعاطفاً مع السلفيّين الجهاديّين، تمثّل بذهاب أربعة نواب من «جبهة العمل» للتعزية بمقتل زعيم تنظيم «القاعدة» في بلاد الرافدين أبو مصعب الزرقاوي. وامتنعت أطراف الحركة الإسلامية، ممثلة بجماعة الإخوان المسلمين وحزب جبهة العمل الإسلامي عن تقديم الاعتذار عن التعزية بالزرقاوي، مشيرين إلى أن ذلك «واجب وطني وديني». وطوّرت الحركة الإسلامية في مستوى مواجهة الحكومة حين عيّنت محامين للمرافعة عن معتقلين سلفيّين حاربوا في العراق، ومتّهمين بـ«محاولة الإخلال بالأمن وزعزعة النظام». وكان من هؤلاء المحامين، عبد الجبار أبو قلة النتدب من مكتب النائب المحامي زهير أبو راغب، القيادي في جبهة العمل الإسلامي، حيث رافع في 12 قضية تتعلق بمحاولات تسلل إلى العراق، شملت 49 متهماً، ما بين عامي 2004 و 2006 بمن فيهم من سُمّيوا «تنظيم الـ 17»، وبعضهم كان على صلة بتنظيم الزرقاوي، بحسب ما نقلت إحدى الصحف.
يبدو أن خيارات التصعيد في وجه الإخوان وذراعها السياسية تنحسر يوماً بعد يوم أمام النظام الحاكم، مع انتشار المدّ السلفي الجهادي الذي يجتاح الأردن، مستفيداً من التغيّرات الإقليمية في العراق ولبنان وفلسطين، حيث إنّ التقارير تؤكّد عودة ما يقارب ألف مقاتل أردني من العراق. ورغم أنّ معظمهم يقبع خلف القضبان أو فتحت له ملفات أمنية على غرار العائدين من أفغانستان، فإنّ القلق الأمني للنظام ينبع من بروز جيل جديد، ظلّ حتى الآن بعيداً من الرصد الأمني، وقد نما حول «الجهاد الإلكتروني» الذي يتعلّم فيه الأفراد صناعة المتفجّرات واختيار الأهداف. ورغم الرقابة الاستباقية التي تُمارَس على مدار الساعة، والتي تفرض على كلّ من يستخدم مقاهي الإنترنت العامة في المملكة، تسجيل بياناته الشخصية وهويّته لدى صاحب المقهى، فإنه لا حلّ أمام النظام في مواجهة «فطريات» التشدّد والتطرّف إلا بالانفتاح والتفاهم مع التيارات الإسلامية المعتدلة كالإخوان المسلمين، القادرين على استيعاب هؤلاء الشباب وتحقيق مطالبهم.
* باحث متخصّص في شؤون الحركات الإسلامية