هشام البستاني *
يتنازع الساحة العربية مشروعان ليس لهما علاقة بالمشروع العربي التحرّري وترتبط بهما عدّة متغيرات:
الأوّل وأكثرهما خطورة، وأعلاهما أولوية في المواجهة، هو المشروع الإمبريالي ـــــ الصهيوني القديم/الجديد، وهو مبنيّ على الامتدادات الاستعمارية والانقسام الذي أحدثه الاستعمار في المساحة العربية وفتّتها إلى دويلات قطرية عاجزة من تلقاء نفسها أو بنفسها عن استكمال مشروع تحرّري حقيقي. الجديد في المشروع الإمبريالي هو التفرّد بالساحة العالمية (الأحادية القطبية الأميركية)، والسير في اتجاه إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية التي كانت ثابتة نسبياً طوال الفترة ما بعد الكولونيالية وفترة الحرب الباردة، ومحاولة تطويق قوى صاعدة منافسة (الصين أساساً، وأوروبا).
المشروع الأميركي لإعادة ترتيب الجغرافيا السياسية في المنطقة العربية (الشرق الأوسط الجديد/الكبير)، يواجه عقبات كبرى، أبرزها على الإطلاق هو المقاومة المسلّحة القادرة على هزم العدو في الميدان، في العراق ولبنان أساساً. وإن كان عدوان تموز 2006 على لبنان هو «مخاض ولادة الشرق الأوسط الجديد»، بحسب تعبير كوندوليزا رايس، واحتلال العراق هو نموذجه الرائد، فيبدو (من نتائج العدوان والاحتلال الفاشلين) أنّ المشروع تعثّرت ولادته، ولو مؤقّتاً.
العقبة الثانية هي أن قوى دولية وإقليمية لا تتّفق مصالحها مع هذا المشروع، بل إن الادارة الأميركية النيوليبرالية الغارقة في ثقتها بنفسها وانفرادها بالعالم، لم تعد تستشير حلفاءها أو حتّى تنسّق معهم. فالأوروبيّون (الأقرب جغرافياً إلى المنطقة العربية والأكثر تأثّراً بأحداثه) لديهم مشروعهم الخاص (الشراكة الأورو ـــــ متوسطية) الذي لا ينسجم بالضرورة مع الشرق الأوسط الكبير. أمّا الصين وروسيا وايران، فتجد بدورها تهديداً استراتيجياً من إعادة تشكيل جغرافيا سياسية جديدة على تخومها، وقد تمثّل منظمة شنغهاي ومناوراتها العسكرية الأخيرة جزءاً من مواجهة التمدّد الأميركي المتسارع نحو الشرق بعد انهيار حائط برلين وسقوط أوروبا الشرقية وجمهوريات البلطيق وجمهوريات جنوب الاتحاد السوفياتي السابق في الحضن الأميركي، واحتلال أفغانستان.
العقبة الثالثة هي الرفض الشعبي العربي القاطع والعصي على الاختراق حتى الآن لكلّ محاولات التطبيع مع الكيان الصهيوني، واعتباره «جزءاً طبيعياً ومقبولاً» في المنطقة العربية، ممّا يمهّد الطريق أمامه ليتحوّل إلى مركز هيمنة رأسمالي على رأس مجموعة مفتّتة من تشكيلات اجتماعية ما دون قطرية. وما زالت «إسرائيل» منذ نشوئها، تراوح مكانها في هذا الملف دون تحقيق اختراقات مهمّة إلّا على صعيد الأنظمة، وهو اختراق ليس ذا أهمية بحكم أنّها جزء من المشروع الإمبريالي ـــــ الصهيوني، لا نقيض له.
هذا لا يعني أنّ الولايات المتحدة ستتخلّى عن مشروعها، وبالتالي فإنّ أدوات مقاومته يجب أن تتطوّر باستمرار.
القاعدة التي تعتمدها الولايات المتحدة في المنطقة العربية هي «التفتيت»، وإعادة تشكيل «المجتمعات القطرية» إلى وحدات أصغر طائفية ودينية وإثنية وعشائرية وعائلية، وقد أدّت الدولة التسلّطية العربية وأنظمتها القمعية دوراً كبيراً في تسهيل «التفتيت» من خلال إضعاف البنى الاجتماعية والمدنية للشعوب (ومن هنا يمكن قراءة أحد جوانب دورها الوظيفي في المشروع الإمبريالي).
فإضافةً إلى نماذج العراق ولبنان وفلسطين المنفجرة فعلاً، يستطيع أي مراقب موضوعي، حين يستعرض التناقضات الداخلية في الوطن العربي، أن يجد «قضايا تفتيتية قابلة للتفجير» في أغلب الأقطار: الخليج العربي واليمن على قاعدة سني ـــــ شيعي، وسوريا على قاعدة سني ـــــ علوي ـــــ درزي ـــــ كردي، والأردن على قاعدة أردني ـــــ فلسطيني، ومصر على قاعدة مسلم ـــــ قبطي، وأقطار المغرب العربي على قاعدة عربي ـــــ أمازيغي....
لا بدّ من ملاحظة أنّ الساحات المنفجرة فعلاً بالصراعات الداخلية، هي ذاتها الساحات المقاومة (العراق، لبنان، فلسطين)، ممّا يشير بوضوح إلى أن أحد أهم أسباب انتاج التشكّلات الاجتماعية المفتتة هو احتواء الظواهر المقاومة بالتحديد وتصفيتها، ومنع أو تنظيم إنتاج أشكال مقاومة جديدة.
المشروع الثاني في المنطقة العربية، هو المشروع الإيراني. الإشكالي في هذا المشروع هو أنه ليس ذا طابع تحرّري، بل توسّعي بصبغات طائفية و/أو قومية. ورغم أنه يتصادم مع الولايات المتحدة ومشروعها الإمبريالي ويتصارع معها، إلا أنّ هذا الصراع هو على قاعدة المكاسب ومناطق النفوذ، لا على قاعدة التحرر. هكذا نستطيع أن نفهم «التناقضات» الظاهرية في السياسة الإيرانية: دعمها للمقاومة في لبنان وفلسطين، ودورها السيء في العراق، ودعمها للولايات المتّحدة في أفغانستان. لهذا السبب، ليس بإمكان العرب أن يبحثوا عن خياراتهم التحرّرية في المشروع الإيراني، وقطعاً لا يمكن إلا أن يكونوا تابعين وعملاء للمشروع الإمبريالي ـــــ الصهيوني، ولا يمكنهم أيضاً اللعب على التناقضات بين المشروعين، لأنّهم ببساطة أضعف منهما، والمشروع الأضعف أو الغائب فعلياً لا يستطيع توظيف مشاريع قوية إقليمياً ودولياً، بل العكس هو الصحيح.
الرهان الوحيد للمستقبل هو على المقاومة، بكل أبعاد هذا المفهوم العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، لأنها الوحيدة القادرة على هزم مشاريع الهيمنة، والدفع باتجاه سياق تحرري. وحتى لو اتخذت بعض أطراف المقاومة أشكالاً طائفية او فئوية او دينية، فإن انتصارها لن يتحقّق إلا بالانتصار على الأشكال الطائفية او الفئوية او الدينية نفسها، لأن هذه الأشكال هي العقبة الأساسية أمام تحقيق مثل هذا الانتصار، وبخلاف ذلك، سيكون انتصارها انتصاراً قابلاً للتوظيف والإفراغ من محتواه.
من هنا، نستطيع القول إن المقاومة هي مفتاح المستقبل، ونستطيع التحول لمحاولة علمية لقراءته.
المقاومة موجودة الآن في ثلاث ساحات ـــــ جبهات أمامية، وإن كان الرهان المستقبلي هو على المقاومة، فإن المقاومات في الساحات الثلاث عليها أعباء إنتاج المرحلة. الكيان الصهيوني هُزم مرتين في لبنان (2000، 2006)، والولايات المتحدة تتلقّى الضربات الموجعة في العراق الى الحد الذي بات فيه الحديث عن انسحاب أميركي مطروحاً بقوة لدى كثير من المحللين وفي أوساط الإدارة الأميركية نفسها. أمّا في فلسطين، فالحالة مأساوية حقاً وتمثّل تجسيداً للسيناريو المستقبلي المعتم.
المشروع التحرري العربي قد يعاد إنتاجه بولادة جديدة بشروط:
أوّلاً إذا استطاعت المقاومة العراقية إنشاء جبهة وطنية حقيقية بميثاق جبهوي، وصياغة رؤيتها العملية للأطر السياسية للفترة التالية لانسحاب الاحتلال (حكومة انتقالية تتبع مجلساً تنفيذياً واسع التمثيل من جميع القوى السياسية المناهضة للاحتلال، إضافةً الى التشكيلات الاجتماعية المختلفة، اعلان فترة لإجراء انتخابات.....) وأخرجت الى النور برنامجاً استراتيجياً مناهضاً للقطرية والطائفية، ويؤسّس لا لمجتمع التحرر من الاحتلال فقط، بل لمجتمع الحرية أيضاً؛
ثانياً إذا استطاعت المقاومة اللبنانية المتمثلة بـ«حزب الله» تجاوز «الزاوية الطائفية» التي حشرها فيها خصومها وحرموها بالتالي حصد ثمار انتصارها في حرب تموز 2006، والتحول الى قوة تحررية قومية ما فوق طائفية وما فوق قطرية بعدما حوّلها فعلها المقاوم الى ذلك بشكل معنوي على كل مساحة الوطن العربي؛
ثالثاً إذا استطاعت المقاومة الفلسطينية استيعاب درس «فتح» و«حماس» من حيث إن ما يسمّى «السلطة الوطنية الفلسطينية» ليست سلطة على الإطلاق، ولا يمكن أن تكون «وطنية» ما دامت تخضع للاحتلال بكل صغيرة وكبيرة، وما دام أساسها وسبب وجودها يقبع في بنود اتفاقيات أوسلو التي تعني اعترافاً غير ملتبس بالكيان الصهيوني واعترافاً غير ملتبس بهيمنته على أي عملية سياسية او اقتصادية أو أمنية في «المناطق الفلسطينية»، وأن هذه «السلطة» هي الطريق السريع نحو التبعية والعمالة للمركز الصهيوني، وبذلك يثبت الفلسطينيون على برنامج استراتيجي يرفض الاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني، وشرعية أي «عملية» سياسية تعترف به أو تخضع له، ويعاد الصراع الى الحاضنة القومية بدلاً من الأفق القطري الموصل حتماً الى «مدريد» و«اوسلو» أخريين.
إن لم يتحقق ذلك، فأغلب الظن أننا سنرى النموذج الفلسطيني الحالي (دويلات مفككة خاضعة بالمطلق للمحتل دون وجود عسكري واسع مباشر) معمّماً على مناطق التماس (العراق، لبنان فلسطين)، تليها تحولات مشابهة في الأقطار العربية الأخرى، وتبقى المساحة العربية ساحة للتجاذبات الدولية والإقليمية، دون أن يكون للعرب أي دور سوى تحولهم الى وقود للمعارك، وعبيد ــــــ مستهلكين في سياق شركات العابرة للحدود، وتحوّل بلادهم إلى مناطق حرة (على شاكلة المناطق الصناعية المؤهلة في الأردن ومصر)، و«حواضر» مالية مفتعلة تحميها القواعد العسكرية الأميركية.
* كاتب وباحث أردني