strong>وسام الحاج *
كان للحرب الإعلامية بين حركتي «فتح» و«حماس» دور واسع في تعميق الصراع بينهما. فقد ساهمت المواقع الإلكترونية بنصيب الأسد في تصعيد الخطاب إلى أقصاه عبر مواقع الطرفين الإخبارية الرسمية وشبه الرسمية، أو من خلال بعض المواقع الحوارية التابعة لهما، ومواقع عالمية مثل «يوتيوب» (you tube) الذي ينشر جمهور الحركتين من خلاله مواد تحريضيّة وفضائح صحيحة أو مفبركة ضد الطرف الآخر.
أعطت هذه المعركة الإعلامية مؤشّراً مهمّاً إلى زيادة قدرة الفرد على التأثير في مسار الحدث السياسي، وإن كان سلبياً: من السهل الآن أن يقوم أحدهم بتسجيل مقطع صوتي أو فيديو لحادث ما بهاتفه الخلوي، فينتشر بعد دقائق وعلى نطاق واسع جداً ويصبح مباشرة حديث الشارع، كما حصل لكثير من الأحداث في الضفة الغربية وقطاع غزة.
من المستحيل اليوم في فلسطين إخفاء الحدث بتغييب الصحافيين عن الواقعة، فالخبر أصبح في متناول الجميع، ونشره لا يحتاج سوى إلى جهاز كمبيوتر متصل بالإنترنت. حتى الإعلام الرسمي لـ«حماس» و«فتح» أصبح يعتمد بشكل رئيسي على ما تتناقله المواقع الإلكترونية التي يديرها أنصار أحد الطرفين. قد تكون أصدق صورة لدرجة الخطورة التي وصل إليها الأمر، هي تلك التي نراها في الشتائم أو الدعوات لإلغاء الآخر، بل والتحريض على قتل هذا أو ذاك بسبب توجيهه النقد أو دعوته للحوار.
أكثر الأمثلة وضوحاً عن هذه الأجواء هو ما ينشره موقع «شبكة فلسطين للحوار» (www.palvoice.com/forums) التابع للمركز الفلسطيني للإعلام، الذي يمثّل الإعلام غير الرسمي لحركة «حماس»، وموقعا «الملتقى الفتحاوي» ومنتديات «صوت فلسطين ـــــ حركة فتح» (www.fatehforums.com/)، و (www.paldf.net).
أبيض أو أسود
المواقع الحوارية للطرفين لا تقارب الحوار إلا في مسميات ساحاتها، أما ماهية المادة (الحوارية) فهي غالباً التصفيق للخطاب الرسمي في أحسن الأحوال. وإن جرؤ أي من المشاركين على توجيه انتقاد للمغالاة في الهجوم على الطرف الآخر، فساعتها لا يلوم إلا نفسه! والأسوأ هو أن يكون انتماء هذا المشارك إلى تيار سياسي آخر، والمقصود بـ«الآخر» هنا هو بالتأكيد ليس «العدو» الفتحاوي أو الحمساوي، بل أي آخر كان، فهو عندها مطالب بتبنّي أقصى ما في الخطاب من تشدّد. على سبيل المثال، تابعتُ على امتداد نقاشات طويلة في صفحات شبكة «فلسطين للحوار» فصول الهجوم الذي يتعرّض له «نضال» اليساري الذي كثيراً ما يهاجمه مناصرو «حماس» لتبنّيه مواقف متّزنة من طرفي النزاع، وانتقاده سلوك القوة التنفيذية التابعة للحركة الإسلامية، على الرغم من أن الانتقادات التي عبّر عنها نضال صدرت أيضاً على لسان قائد هذه القوّة وقيادة «حماس» السياسية أكثر من مرة. وفي السياق عينه، هاجم المشاركون في سلسلة من الموضوعات عضو المجلس التشريعي عن الجبهة الشعبية جميل مجدلاوي لانتقاده سلوك القوة التنفيذية، فكانت التهمة الجاهزة كالعادة هي أنه يمالئ «التيار الخياني»، ويجب اعتقاله من قبل القوة التنفيذية، بل «يجب قتله لأنه لا يريد إمارة إسلامية».
والوضع ليس أفضل حالاً بالطبع لدى أنصار حركة «فتح» الذين خصّصوا ساحة للمشاركات المتعلقة بممارسات حركة «حماس» في قطاع غزة «لرصد الجرائم الصهيو ـــــ حمساوية»، إذ يبثّون فيه صور فيديو لإعدامات ميدانية واعتداءات بحق عناصر من «فتح»، وفضائح أخلاقية يزعمون تورط قادة «حماس» وعناصرها فيها. وفي تعاطيهم مع الواقع السياسي، لم يسلم منهم حتى النائب عن حركة فتح في المجلس التشريعي والقيادي البارز في الحركة قدورة فارس، الذي أفردوا له موضوعاً بعنوان «قدورة فارس، فلتقل خيراً أو فلتصمت»، رداً على تصريح صحافي أطلقه في عمان يقول فيه إن «الحوار بين فتح وحماس هو خيار لا بد منه»، مرجّحاً إمكانية استئناف الحوار بين الحركتين بعد مؤتمر الخريف.
ثقافة العنف
يعتبر العديد من المراقبين هذا العنف الكلامي الممتد على صفحات الإنترنت نتيجةً للثقافة التي أسست لها كل من الحركتين المتصارعتين. ويقول الصحافي أيمن المدهون «الواقع أن حركتي فتح وحماس تحظيان بتأييد كبير في الشارع الفلسطيني، وإذا كان كل منهما يغذي عناصره بثقافة العنف والكراهية وعدم تقبل الآخر، فإن التعبير عن هذه الثقافة لمسناه في الأشهر الأخيرة بعد تفاقم الخلاف السياسي بين القطبين السياسيين، وما عبّرت عنه ممارسات عناصر كل طرف منهما خلال أيام ما سُمي بـالحسم العسكري وما تبعه حتى الآن».
فيما يرى آخرون أن العنف السياسي عبر ما يزيد على ستين عاماً من الاحتلال، وتحديداً القتل والتدمير المركّز من قبل قوات الاحتلال خلال انتفاضة الأقصى، وما لحقه من احتقان سياسي وانفلات أمني بين «فتح» و«حماس»، كل هذا دفع المواطن الفلسطيني للالتجاء إلى هوية جمعية تحقق له نوعاً من الأمان الزائف، وهكذا تحولت الأحزاب إلى قبائل ينتمي إليها عناصرها بفعل الحاجة إلى الانتماء لقبيلة لا إلى مشروع سياسي، وأصبح الدفاع عنها يأتي بمنطق الدفاع عن القبيلة، وبالتالي فإن التعصب لها صار هو الشكل الطبيعي للخطاب السياسي في الشارع الفلسطيني.
أمّا السيد حسن شاهين الباحث في مركز الميزان لحقوق الإنسان، فيعتبر أن «حالة الصراع التي حكمت شكل العلاقات الداخلية الفلسطينية خلال العامين الماضيين أنتجت ثقافة ضارة وغريبة عن المجتمع الفلسطيني، قائمة على العنف وإلغاء الآخر ونفي حقه في الوجود أو التعبير عن نفسه. والشباب، بطبيعة الحال، هم الفئة الجاهزة والمستعدة لتقبل إسقاطات كهذه». ولهذا اعتبر شاهين أنه على رغم الجانب الإيجابي لما يحمله انتشار الإنترنت والإعلام في إعطاء الفرصة للجميع، حيث إن الإعلام «لم يعد حكراً على جهات معينة ذات مال وسلطة ونفوذ»، جعل التحريض المركّز من قبل المتصارعين، هؤلاء الشباب يستخدمون قدرتهم على التعامل مع التقدم الحاصل في مجال الاتصال والمعلوماتية «بالمساهمة في الصراع عبر المنابر التي وفرها لهم هذا التقدم التكنولوجي»، وصارت منتدياتهم ومدوناتهم «ساحة لنقل الأخبار والمعلومات المغمسة بخلفية ثقافية قائمة على الإقصاء والكراهية، وأصبحت هذه المعلومات ووجهات النظر والأفكار والصور التي تنتشر على هذه المواقع مصدراً للمعلومة وللتنظير والدعاية الحزبية ينافس المصادر التقليدية، بل وفي كثير من الأحيان يتفوق عليها». وحذر شاهين «من يشجع ويحتضن هذا التحريض في قيادتي فتح وحماس، من أن أضراره باتت تصيب نسيج المجتمع نفسه».
وللإنصاف، فالمشكلة الأساس هي في الجهة التي تدير وتقر سياسات الخطاب وقواعده وأخلاقياته في مجتمعات المنتديات الحوارية. فهذه المنتديات كان بإمكانها أن تكون عنصراً فاعلاً وإيجابياً في ظل الأجواء المشحونة، إن أُجيدت إدارتها، لتجعل من ساحاتها حاضنة للحوار القائم على تقبل الآخر واحترام الرأي المغاير، فيما يشوّه ترك العنان للمناكفات والإساءات، صورة القوى السياسية التي يعتقد مديرو هذه المدونات أنهم يدافعون عنها.
* صحافي فلسطيني