لطفي حجي *
شكّلت علاقة الإسلاميين بالعلمانيّين محور بحث في العالم العربي (وخصوصاً في بلدان المغرب العربي التي ننحدر منها) منذ عقود، وتحديداً منذ انتشار الحركات الإسلامية في عدد من البلدان العربية والإسلامية.
وإذا كانت العلاقة بين القطبين العلماني والإسلامي تتفاوت من بلد عربي إلى آخر ومن فترة زمنية إلى أخرى، فإنها لا تكاد تخرج عن إحدى الدوائر التالية:
الدائرة الأولى هي الاستنفار والمواجهة المستمرّان، ما مكّن السلطات في عدد من البلدان من الإمعان في تغذية الخلافات والتناقضات بين القطبين، فتضرب تياراً بتيار حتى تبقى هي المتحكّمة في قواعد اللعبة السياسية وتعوق تأليف جبهة سياسية واسعة في مواجهتها.
الدائرة الثانية تتمثل في التعايش غير المرغوب فيه في عدد من البرلمانات العربية التي نجحت دولها في إجراء انتخابات تعدّدية سمحت بتأليف فسيفساء برلمانية عاجزة عن التحوّل إلى غالبية يمكن أن يحتكرها هذا الطرف السياسي أو ذاك، وهو تعايش مهدّد بالانفجار بين لحظة وأخرى إذ يكفي أن يصدر تصريح أو موقف من أي طرف لا يروق الطرف المقابل حتى تندلع المعركة بين الطرفين من جديد وينفجر المكبوت.
أما الدائرة الثالثة فهي بعض المحاولات المحتشمة بين القطبين اعتقاداً منهما أن التناقضات الجوهرية هي مع الخصم الرئيسي الذي هو السلطة، ويجب أن تُعطى الأولوية على التناقضات البينية التي يمكن أن تجد لها حلولاً متى توافرت الحريات العامة التي يعدّ غيابها النقيصة الكبرى في الحياة السياسية العربية.

العوائق المستمرّة

يدرك الباحث في تاريخ العلاقات بين القطبين أنّ العجز عن إرساء قواعد ثابتة ودائمة أساسه عدم حسم المسائل الفكرية التي تشكّل مجال استنفار بالنسبة إلى كل طرف على حدة.فالإسلاميون يتربصون بالعلمانيين ويتتبّعون خطاهم في ما يسمونه تصريحات تمس المقدسات الإسلامية والإسلام عامة، أو في حالات عدة من تأويلاتهم الخاصة التي عادة ما تصبح هي الإسلام، ضمن قراءة أحادية ترفض أي نوع من أنواع تعدد القراءات للإسلام، وهو ـــــ أي القبول بتعدد القراءات ـــــ اختيار يعطي لأصحابه أريحية في التعامل مع الإسلام من ناحية، وفي قبول الآراء المختلفة حول الإسلام من ناحية أخرى.
أما الميدان الثاني للمعركة فهو ما يعتبره العلمانيون مسّاً بالحريات الفردية والعامة، لأن الاعتقاد السائد لدى العلمانيين هو أن الإسلاميين متى تمكنوا من السلطة سينقضّون على الحد الأدنى من الحريات المتوافرة. والأمر هنا يتعلق بالعقوبات الجسدية أو ما أصبح يُعرف بالحدود خاصة، وبحقوق المرأة وقوانين الأحوال الشخصية عامة، وكذلك بحرية تكوين الأحزاب والجمعيات مهما كانت توجهات أصحابها.
وبمرور الزمن، تعمقت الهوة بين ميداني المعركة. ولعلّ ما زاد في تعميقها، غياب أي حوار بين القطبين وبروز فكر إسلامي راديكالي أصبح ملجأ للعديد من الفئات، وبالتحديد للشباب الذي لم يجد التأطير المناسب في بلدانه داخل الفضاءات العامة، وهذه من المفروض أن تخصص للحوارات الوطنية، فينتج من ذلك ردم الهوة بين الأطراف السياسية التي تتعايش في فضاء مجتمعي واحد، ومن المفروض أن ترسم خطوط مجتمعها الكبرى معاً مهما تباعدت الفوارق الإيديولوجية بينها.
وعلاوة على الفوارق الإيديولوجية ـــــ الفكرية، فإنّ ما يعوق التقارب هو الوعي السياسي السائد في عدد من البلدان العربية، وهو وعي لم يخرج في أغلبه من الحصون الإيديولوجية القديمة، ما جعله يغلّب الخلافات الإيديولوجية على ما هو سياسي براغماتي. وطبيعة هذا الوعي تبرز جلياً من خلال ما يمكن أن نسميه التفريخ الذي أصبح سمة الأحزاب السياسية العربية، وهو يتم بخروج نواة بصفة مستمرة من رحم الأحزاب، تعلن في سرعة البرق عن تكوين أحزاب سياسية ولا يتردد بعضها في اعتبار نفسه الحزب الأصلي.
والمقارنات بما يحدث حولنا من تحولات في عدد من البلدان المجاورة تُبرز أيضاً محدودية الوعي السياسي. فالعديد من الديموقراطيات المجاورة استطاعت أن تضمن التعايش بين القطبين من دون هزات تمسّ جوهر النظام السياسي واستقرار البلاد، وذلك على الرغم من أن التعايش يمر أحياناً بعمليات قيصرية.
والمثال الأقرب إلينا الذي أخذ صدى واسعاً في الأيام الأخيرة هو المثال التركي الذي استطاع أن يضمن التعايش بين العلمانيين الراديكاليين، إن جازت العبارة، والإسلاميين والقوميين وغيرهم من التيارات السياسية، على رغم ما يشوب النظام السياسي التركي من ثغرات بخصوص حقوق الأقليات، وقضية الأكراد هي الأقرب إلى الأذهان في مثل هذه الحالات..

في الأولويات الجديدة

بعد معاينة التجارب السياسية العربية التي سمحت بتكوين الأحزاب وإجراء انتخابات تشريعية على علّاتها (لأن العديد من التجارب السياسية العربية لا تزال متخلّفة عن النظام السياسي الحديث بقرون)، يصبح من حقنا أن نتساءل لماذا نفشل حيث ينجح
الآخرون؟
والجواب هو أن القوى السياسية عندنا عادة ما تخطئ في ترتيب الأولويات فتتخاصم لعقود طويلة على ما يفرقها من قضايا عقائدية، في حين أن ما يجمعها أكبر، وهو المتعلق بالأساس بقضايا التنمية والديموقراطية وجوهر النظام السياسي، التي أصبحت من القضايا الأساسية التي تحرك الشعوب.
ولعلّ تلك الصراعات الهامشية أنست الأطراف السياسية أن الخصم الأكبر هو الاستبداد مجسداً في السلطة وليس الخلافات البينية، لأن السلطة هي العقبة الكأداء التي عجزت عن تخطيها كل القوى السياسية، والسلطة هي التي أعاقت مشاريع الديموقراطية والتنمية الفعلية المنتجة من دون إنكار ما تحقق في بعض البلدان.
ومن الأولويّات كذلك أن تصل القوى السياسية المختلفة إلى أرضية مشتركة حول القاسم الديني المشترك، وهذه الأولوية مؤكدة عندنا لأن الدين أصبح محركاً للسياسة في بلداننا، سواء من القوى السياسية ذات الخلفيات الدينية التي تعتبر الدين منطلقها الأساسي، أو من القوى المخالفة لها التي باتت تبحث هي الأخرى عن موقع الدين في برامجها السياسية والانتخابية بعدما اعتقدت لعقود طويلة أن ذلك لا يهمّها، فتركت المجال فسيحاً أمام خصمها السياسي والديني ليحصد الأصوات.
إذا توصّلت الأطراف السياسية المختلفة والمتعددة إلى أرضية من ذلك القبيل يمكنها أن تبني مجتمعاً حديثاً يعيش فيه العلماني مثلما يعيش فيه المتديّن من دون خشية من الانتكاسات نحو الاستبداد، مرة باسم الدين، وأخرى باسم الحداثة.
* صحافي وكاتب تونسي