strong> صباح علي الشاهر *
ليس من الصعب وضع اليد على ذاك الخطاب المُتشنج، الإقصائي، الهدّام، والعقيم، السائد في الساحة السياسية العراقية في الوقت الراهن.
يتكرّس هذا الخطاب في اتجاهين: أوّلهما يتمثّل بمن فقد السلطة، ففقد رشده، وبات لا هم لديه سوى استعادة هذه السلطة، مهما كانت الوسائل والأساليب. والخطاب الثاني لم يُصدّق أنه تسلم السلطة بعد طول حرمان، فبات لا همَّ لديه سوى الحفاظ عليها، وبأي وسيلة كانت، حتى تلك التي تستوجب الارتهان الخنوع للمحتل. والخطابان يقرعان الطبول، ويهيجان الأتباع، ويدعوان بلا هوادة للقتل والتدمير.
من أجل استعادة السلطة، أو الحفاظ عليها، تُستعمَل الوسائل الشريفة وغير الشريفة، وكل الذرائع، ويُعمق وعلى نحو مُريع الاحتراب الطائفي والعنصري، ويكرَّس نهج التصفية الدموية التي تجاوزت كل تصور.
يرى الاتجاه الأول أن استعادة السلطة المفقودة يُبرر أي عمل وفعل، حتى إذا كان على حساب تدمير كل شيء، وعنده أن كل ما دُمر أو سيُدمر سيُعاد بناؤه، وأن الذين يفقدون أرواحهم الآن جراء العلميات التي يُقصد منها إفشال حكم من جاؤوا للحكم على ظهر دبابات الاحتلال، هم في الحسابات النهائيّة أقل بما لا يُقاس من عدد الضحايا الذين سيفقدهم البلد إذا ما ظلَّ الاحتلال وعملاؤه في الحكم، وهو أمر بات الكثير من المحللين والمتابعين للشأن العراقي يشككون بصدقيته. فعدد الضحايا فاق كل تصور، وكميّة الخراب والدمار كارثيّة بكل المقاييس، وخصوصاً أن هناك أطرافاً معينة تقتل وتدمر، ليس من أجل إخراج المحتل، بل لحسابات عقائدية خاصة بها، والبعض وجد في الساحة العراقية التي هي نتاج الفوضى الخلاقة، ساحة مناسبة تماماً لتصفية حسابات لا علاقة للعراق والشعب العراقي بها. وهذا يعني أن حجم الدمار الحاصل في البلد ليس بسبب النضال المشروع ضد المحتل وعملاء المحتل، لكن يمكن القول إن الدمار العشوائي الهمجي، الذي يستهدف الناس ومصالحهم، ليس ضمن أجندة القوى المقاومة للاحتلال، وقد يكون ضمن توجهات فئة قليلة تحسب حسابات خاطئة.
أما الاتجاه الثاني، الذي لم يتسلم السلطة الحقيقية، بل تسلّم شكلها المشوّه، أو سُلّم له شكلها، والذي يعتمد بوجوده وبقائه على قوى الاحتلال، والذي يجد أنه بعد نحو خمس سنوات من تمتعه بسلطة ناقصة ووهميّة في جوانب عديدة، غير قادر على البقاء أو الحفاظ على هذه السلطة الناقصة والوهميّة ولا الاستمرار بها إلا من خلال دعم المحتل، فإنه من أجل التمتع بالسلطة التي حُرم إياها، والتمتع بمكاسبها المادية والمعنوية، مُستعد للذهاب مع المحتل إلى أبعد مدى، ليس بصفته حليفاً بل بصفته تابعاً، رغم أن هذه التبعية، وبالشكل المُقرف المُهين الذي ظهرت فيه تتعارض كلياً مع المنطلقات النظرية والعقائدية التي تأسست بموجبها غالبية أحزاب وحركات هذا الاتجاه، ما يضع علامة استفهام كبرى على حقيقة هذه الأحزاب، وهؤلاء يرون أن من هم في الجانب الآخر لا ينشدون سوى إزاحتهم والحلول مكانهم، ومن ثمَّ التنكيل بهم، وهم لا يعدمون تقديم الدلائل (التي يقدمها لهم، على طبق من ذهب خطاب الطرف الأول)، لذا ليس وارداً عندهم البحث عن نقاط التقاء لا يعتقدون بوجودها أصلاً.
هذان الخطابان السائدان في الساحة السياسية العراقية في ظل الاحتلال، وهما اتجاهان مسنودان بكل ثقل وقدرات القوى الفاعلة في الوضع العراقي، دولية أو إقليمية، هذان الخطابان مأزومان بذاتهما وجوهرهما، لذا فليس بإمكانهما توفير المخرج المناسب من الأزمة العراقية المُستفحلة، التي بات استمرارها يهدد الجميع من دون استتثناء، بل إنهما في واقع الحال يؤبدان الأزمة ـــــ الكارثة ويعمقانها، ويزيدان بؤس العراقيين، ويُسهمان بإرادتهما أو بدونها، في دمار
البلد.
من المؤسف أن يكون الخطاب الثالث الذي بإمكانه إنقاذ العراق من الحالة التي هو عليها مُهمشاً ومطوّقاً، ومُحاصراً من كل جانب، فهو خيار لا يضمن عودة السلطة لمن فقدها، كما أنه لا يتركها في يد من نصّبه الاحتلال، بكل بساطة يضع هذا الخيار مصلحة الشعب العراقي والوطن العراقي في المقام الأول، دونما اعتبار لأي شيء آخر، وهو لا يعد بتسليم السلطة لطرف من الأطراف، بل يضع هذه المهمة على عاتق الشعب العراقي الذي وحده سيقرر من سيحكمه، عبر صناديق الاقتراع، وهذا لا ولن يتم إلا بتحقيق شرطين أساسيين هما: تحرير البلد تحريراً كاملاً ناجزاً، والحفاظ التام على وحدته وسلامة أراضيه.
الخطاب الثالث المُهمّش، هو خطاب الوحدة والمصالحة الحقيقية بشروطه الجوهرية الثلاثة، هذه الشروط غائبة ومُغيبة فعلياً وعملياً، لا قولاً، من طرفي الصراع السائدين. ينبغي تفعيل هذه الشروط المُغيبة على قاعدة الثوابت الوطنية. وإذ ينطلق خطاب الوحدة الوطنية الحقيقية من المسلمات المُتفق عليها، فإنه يدعو لجعل هذه المُسلمات خطوطاً حمراً اليوم وغداً، لا يجوز تجاوزها، كما أنه انطلاقاً من موقفه الوطني الشامل، لا يستثني حزباً أو جماعة أو فصيلاً أو تشكيلاً عراقياً، فمهمة تحرير البلد وبنائه مهمة مُشتركة لكل أبنائه، وليس بمقدور أحد، ولا من حقه أن يحرم أي مواطن عراقي شرف الإسهام بهذا المهمة النبيلة. وهو بالإضافة إلى هذا يستوجب القطيعة التامة مع سلبيات الماضي، وجعل مهمات الحاضر والمستقبل هي الأساس في الاصطفاف الجديد، وهو ينطلق أيضاً في توجهه من حقيقة باتت بالغة الوضوح الآن، ألا وهي أنه ليس كل الذين يعملون ضد المحتل، الذين يقاومون بالسلاح وبالكلمة والموقف هم من من التكفيريين أو الإرهابيين، أو المساندين للإرهاب، فالطلائع المقاومة هي أشد المقاومين للإرهاب، وهي تتصدى له في ساحات القتال.
كما أنه من جهة أخرى ليس كل من دخل ما سُمي العمليّة السياسية، أو انخرط في أجهزة الدولة الحالية هو من مؤيدي الاحتلال ومن عملائه، وستكون هذه المُسلمة البداية الواعدة لإيجاد المخرج من الكارثة
العراقية.
* صحافي عراقي