خورشيد دلي *
مع انتخاب 22 نائباً كردياً في البرلمان التركي، توقّع المراقبون أن يساهم هذا التطور السياسي في نقل المشكلة الكردية التركية من ساحات المعارك في الجبال إلى قاعات البرلمان بحثاً عن حلّ سلمي للمشكلة، بعد عقود من المواجهات الدامية بين السلطات التركية وحزب العمال الكردستاني.
ولعلّ ما دفع المراقبين إلى التفاؤل بهذا الاتجاه، هو تسلّم حزب العدالة والتنمية الرئاسات الثلاث (البرلمان والحكومة والجمهورية)، والحديث عن أنّ تركيا دخلت مرحلة جديدة مغايرة لمرحلة حكم النخب العلمانية المتتالية، وخصوصاً أن «العدالة والتنمية» انتهج نهجاً وسطياً معتدلاً في تعامله مع القضايا الداخلية والخارجية التي تشغل السياسة التركية.
أولى تحرّكات الحزب الحاكم في هذا الاتجاه، جاءت من رئيس الدولة عبد الله غول الذي قام أخيراً بجولة في خمس ولايات في الجنوب الشرقي وهي وان، هكاري، سرت، شيرناخ، دياربكر، حيث الغالبية العظمى من سكّان هذه الولايات هم من الأكراد، وتشهد هذه المناطق تنافساً حادّاً بين حزب العدالة والتنمية، وحزب المجتمع الديموقراطي الذي تقول العديد من الأوساط التركية إنه الواجهة السياسية غير المعلنة لحزب العمال الكردستاني.
جولة غول هذه، التي هي الأولى له بعد تسلّمه منصبه، أثارت العديد من الأسئلة والرسائل. فعلى المستوى التركي، رأى المراقبون أنّ غول أراد من هذه الجولة، إيصال جملة من الرسائل، لعلّ أهمّها: ـــــ أنّ المشكلة الكرديّة التركية هي من أولويات العهد الجديد، وأنّ الحكومة جادّة في إنهاء هذه المشكلة. ـــــ أنّ الجولة كانت رسالة واضحة للكيان الكردي في كردستان العراق بأنّ العهد الجديد لن يسمح بتهديد أمن تركيا عبر هذا الكيان. ـــــ جسّدت تماهٍ مع سياسة الجيش المعلنة تجاه الحركة الكردية المسلّحة في هذه المناطق. ــــــ كانت بمثابة إصرار من حزب العدالة والتنمية على الاستعداد لمنازلة حزب المجتمع الديموقراطي في عقر داره. وهنا ينبغي التذكير بتصريحات رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان عندما خاطب رئيس حزب المجتمع الديموقراطي أحمد تورك قائلاً: «سيأخذ العدالة بلدية دياربكر (عقر دار الحركة الكردية) منكم في الانتخابات البلدية المقبلة».
ـــــ حملت الجولة رسالة إلى الاتحاد الأوروبي مفادها أنّ «العدالة والتنمية» يضع المعايير الأوروبية نصب برنامجه السياسي، وأنّ المشكلة الكردية هي في صلب اهتمامات حزبه بحثاً عن الدعم والتأييد لخياره الأوروبي، إلّا أنّ غول لم يطرح عملياً أية رؤية جديدة لحل المشكلة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو: مقابل الرسائل التركية هذه، كيف فهم الأكراد أبعاد جولة غول وأهدافها ورسائلها؟
من جهة أولى، ترى الأوساط الكردية أنّ غول زار المناطق الكردية بصفته رئيساً لأركان الجيش التركي لا بصفته رئيساً للجمهورية يقدّم مشروعاً جديداً لتحقيق الاستقرار والسلام في هذه المنطقة.
من جهة ثانية، أراد غول البعث برسالة واضحة ومباشرة إلى الجيش فحواها أنه على توافق مع سياسة المؤسّسة العسكرية حيال المشكلة الكردية، وأنّه يرغب في كسب ودّ الجيش بعد الفتور الذي أبداه تجاهه.
في الواقع، إذا كانت نظرة الأكراد إلى جولة غول لا تبتعد عن إطار «الخدعة»، فإنّ جملة المؤشّرات التركية تجاه النواب الأكراد حتى الآن، لا تشير إلى أنّ الجدل بشأن المشكلة الكردية سينتقل من الجبال إلى البرلمان، إذ إنّ الرئيس السابق أحمد نجدت سيزر لم يوجّه الدعوة للنواب الأكراد للحضور إلى القصر الرئاسي كما جرت العادة، وقيادة الجيش بدورها لم تدعُ هؤلاء إلى حضور الاحتفال بعيد النصر، وهو الأمر الذي دفع بأحمد تورك إلى اتهام الجيش بـ«النزعة الانفصالية»، وهي تهمة عادة ما توجّهها الأوساط التركية إلى حزب العمال الكردستاني. وعلى إثر هذه التصريحات التي أيّدها النواب الأكراد، قام المدّعي العام بفتح تحقيق مع تورك وعدد آخر من النواب الأكراد، بينما اتهم أردوغان هؤلاء النواب بـ«الإرهاب» على خلفية انتقادهم لبرنامج الحكومة بشأن المشكلة الكردية.
لا شكّ في أنّ هذه المؤشّرات تخفض من التفاؤل بإمكانية إيجاد حلّ للمشكلة الكردية على الأقل في المدى المنظور، وبات كثيرون يتذكّرون السيناريو الذي جرى مع النواب الأكراد بعد فوزهم في انتخابات 1991، ومن ثمّ رفع الحصانة عنهم وسجنهم حيث وصلت مدّة محكومية البعض منهم (أحمد تورك، ليلى زانا التي حازت على جائزة ساخاروف للسلام ورُشّحت لجائزة نوبل) إلى 15 عاماً بناءً على المادة الثامنة من قانون مكافحة الإرهاب.
قد يكون من المبكر الحكم على تجربة العهد الجديد لـ«العدالة والتنمية» وصراعه السلمي مع الجيش على هوية الدولة التركية وبنيانها، لذلك يرى البعض أنه ينبغي قراءة أهداف جولة غول الكردية بعمق، وخصوصاً أنّها تتعلّق بقضية بنية الدولة التي أسّسها مصطفى كمال أتاتورك، وهي بمثابة خطّ أحمر بالنسبة إلى الجيش الذي يقف بالمرصاد لغول.
إنّ هذه النظرة المتأنّية لعهد «العدالة والتنمية»، تقابلها نظرة أخرى تقول إنّ الرواسب العثمانية في ذهنية هذا الحزب لا تزال موجودة بقوة، وهي نظرة لا تختلف عن رؤية النخب العلمانية في النظر إلى المشكلة الكردية من زاوية أمنية فقط، بينما المطلوب من «العدالة والتنمية» مواجهة شجاعة للمشكلة الكردية، مواجهة تفضي إلى التحرّر من الخلفية العثمانية وذهنية التفوّق التركية من خلال تصوّر جديد للدولة التركية ليس على أساس قومي تركي حصري، بل على أساس إيجاد حلّ سلمي لمشكلة تعوق دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي والسلم الاجتماعي والأمن الوطني، وصولاً إلى التنمية عبر إزالة الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين الجنوب الشرقي المتخلّف اقتصادياً، والشمال الغربي الذي بلغ مستويات صناعية متقدّمة.
* كاتب سوري