زيد الزبيدي *
قد أكون متّفقاً إلى حدّ بعيد مع ما طرحه الزميل الصحافي صباح الشاهر، عن «الخطاب المهمّش في الحالة العراقية» المنشور في «الأخبار» في عددها الصادر يوم السبت 6 تشرين الأوّل، إلا أنني أودّ الإشارة إلى أسلوب الطرح، في قضية معقّدة كالقضية العراقية، إذ استند الكاتب على عنصرين أساسيين في «الخطاب المتشنج»، وجعلهما كأنهما محور أو جوهر المشكلة العراقية.
ولا اختلاف مطلقاًَ على وجـود هذين العنصرين، لكن الخطأ الفادح هو الانجرار وراء اتهام كل من يعارض الوضع الحالي في البلاد بأنه «من أتباع النظــــــــــــام الســــــــــــابق»، وهذا ما أبرزه الكاتـــــــــب، من خلال أسلوب الطرح، لا من خلال المضـــــــــــمون، حيث صوّر الصراع الأساســــــــــــي بين من يريد العــــــــــــودة إلى الوراء، ومن يريد التشبـــــــــــــــث بإبقاء ما حصل عليه من مكاسب بوجـــــــــود الاحتــــــــــــلال. وكلتا الحالتين مرفوضتان في «الخطاب المهمّش».
وللحقيقة، لا وجود لمن يطمح بالعودة إلى النظام السابق، غير ما تطلقه الحكومة والاحتلال على كل من يعارضهما (ولعلّ الزميل الكاتب غير بعيد عن اتهام مسؤولين أميركيّين اقترحوا تأجيل الاستفتاء في كركوك بأنهم «صدّاميون شوفينيون تكفيريون»). ولو كان لمثل هؤلاء الذين يريدون العودة إلى الماضي، وجود ملموس، لما سقط النظام بالصورة التي شهدناها، بينما استعصت مدينة صغيرة مثل الفلوجة على الاحتلال وأعوانه طوال السنوات الأربع الماضية.
والحقيقة الأكيدة هي أنّ العراقيّين لفرط معاناتهم من النظام الحالي، أصبحوا أكثر حنيناً للنظام السابق، بكل قساوته وفشله في معالجة القضايا التي تهمّ الشعب، بل إنّ معظمهم يريدون محاكمة النظام السابق على أكبر جريمة ارتكبها، وهي وصول الحكّام الحاليّين إلى الحكم.
أمّا اليوم فمن هم «المقاتلون» الذين يوصفون بأنهم يريدون «استعادة مكاسب فقدوها»؟، وخصوصاً أن من المعروف أنّ من أرادوا استعادة المكاسب أو الحفاظ عليها، استعادوها أو حافظوا عليها فعلاً، من خلال انخراطهم في الأحزاب الحاكمة، حتى أصبح بعضهم سادة القرار فيها، وإن لم يكونوا في الواجهة الأمامية. أمّا البعثيون، فهم غيّروا طروحاتهم السابقة، ولا سيما موضوع «الحزب القائد»، الذي أصبح من اختصاص كل الأحزاب على الساحة.
وحسب المعلومات المتسرّبة عن المفاوضات بين أطراف حكومية، وأخرى بعثية، فقد طلبت الأطراف الحكومية من البعثيين إصدار بيان واضح وصريح ينتقد سياسات حزب البعث السابقة، وقد وافق البعثيون على إصدار بيان «نقد ذاتي»، شرط أن تقوم الأطراف السياسية الأخرى بالعمل نفسه، وأن تحصل مكاشفة علنية في جميع المواضيع، وهذا ما لم ولن يقبل به أيّ من أحزاب السلطة الحالية، التي لا يميزها عن البعث سوى الانتماء العلني للخارج، وهذا ما أوضحه الزميل الشاهر، وكان موفّقاً فيه.
وعلى العموم، ليس للبعثيّين (كحزب) ذلك التأثير المهم في الساحة العراقية، إلا في أذهان وإعلام الأحزاب الحاكمة، أي إن الخطاب المتشنج ليس بين الماضي والحاضر، بل بين الحاضر والحاضر... وهو خطاب أوجده الاحتلال من خلال الترويج للنزعة الطائفية التي أفرزت متطرفين متميزين، شعبيتهم هي شعبية البعث نفسها.
وفي الجانب الآخر، تقف المقاومة، وفيها أيضاً نجد أسلوب «الحزب القائد» الذي فرضته «القاعدة» تحت مسمّى «الإمارة الإسلامية»، التي تفترض مبايعة الآخرين لها، وإلّا فإنهم «عُصاة» على ولاية «أمير المؤمنين».
وهكذا، فإن الانقسام الحالي لا يتمحور حول من فقدوا مكاسب العهد السابق، ومن لم يصدّقوا أنهم تسلموا سلطة شكلية من خلال الاحتلال، بل هو انقسام أوجدته حالة الفراغ التي تركها سقوط النظام الذي لم يسمح بوجود آفاق سياسية، فجاء الاحتلال ومَن معه من دون برنامج واضح، ما أربك حتى أولئك الذين تسلّموا السلطات، وليس في ذهنهم ما يفعلونه للبلد، فانصرفوا إلى ما يفعلونه لأنفسهم، لعلمهم الأكيد بأنه لا بقاء لهم إذا ما رحل الاحتلال.
أما أن يكون «الصوت المهمّش» هو البديل، فذلك طموح لا يضاهيه طموح، لكنه يعيدنا إلى ما خلص له الكاتب، بأن الإرهاب تداخل مع المقاومة، وأن هناك وطنيين في العملية السياسية، غير أن الصعوبة تكمن في كيفية الفرز والتلاقي.
أخيراً، توصّل الكاتب إلى أنه ليس كلّ من عارض العملية السياسية «إرهابياً» «أو بعثياً»، وليس كل من أيّد العملية السياسية عميلاً للاحتلال، وهذا امر بديهي يقع ضمن الاجتهاد واختلاف الرؤية والتفسير. غير أن البديهي أيضاً هو عدم وطنية من أتوا بالاحتلال ومع الاحتلال، وخصوصاً من يعرفون جيداً ما تعنيه كلمة «احتلال».
أمّا الذين يستسيغون قتل الشعب بعبثية منقطعة النظير، فلا فرق بينهم وبين الاحتلال أو توابعه. وتبقى الكلمة الفصل في المستقبل، ربما غير المنظور حالياً، للغالبية المهمّشة أو المغيّبة، أو بالأحرى «الغالبية الصامتة» التي لن يسمع صوتها وسط ضجيح الرعب الحالي.
* صحافي عراقي