نسيم ضاهر *
ما كنتُ أحسب أن يأتي نبأ رحيل أبي فادي من نعي في الصحف. هذه بغضاء الفرقة كما شاءت الظروف إنزالها برفاق تقاسموا الخبز والملح، وتشاطروا عهد الشباب ليالي من النقاش يعقبها السمر.
من عشيرة الحاج عبد الله حمدان، سار حسين من المقاصد إلى مصر، فالجامعة الأميركية في بيروت، ومنها خرِّيجاً إلى عهدة موريس الجميل، وفضاء بعثة إيرفد في وزارة التصميم. لكنّه حطّ رحاله بالمؤازرة في الحزب الشيوعي، مؤسسة العمل مجاناً، الأبقى والأحضن، وعرف منذ البدء أنه لن يغادرها إلا إلى مثواه الأخير، فاجتمع ما كُتب له وما أراد. واستمرت هيفاء الثكلى شاهده الصامت، معينهُ وملاذه في السرّاء والضرّاء.
أحبّ حسين الحياة بنَهَم، وأضاف إلى سنوات رحلته فيها حصة اقتطعها من ساعات النوم والراحة، فبدا، في حساب مضاف المعاش ونصاب ميقاته، كأنما تجاوز المائة من عمر الآخرين، متنازلاً عن معدودات قليلة لأحوج الحاجات وسنّة الطبيعة. كان ذلك ردّه الأنيس على الظلم وفقدان الأحبّة، شهداء من حوله، دلّ معظمهم على الطريق. وضحك مع شقيقه الشقيّ العائد حسن (مهدي عامل) من الموت، صغيراً عنه بأشهر في الولادة، عميداً للعائلة في الحزب. هذا بورجوازي السمات ممشوق، أنيق المظهر والملبس، وذاك بروليتاريّ الطلَّة بسيط الهندام، وكلاهما عشير دمث، فاختار القدر حسناً للغيلة، وأخطأ حسيناً بالحيلة، فقبض على الريادة والأمانة في البيئة، وآلت إليه القيادة بين نوتية مركب الحزب.
يجهل كثيرون أبا فادي المثقف المتوثب، الذي آثر لبوس الباحث والإداري الرزين، وترك الوهج طوعاً لشقيق غزير النتاج الفكري والفلسفي. هكذا يمضي الناس إلى خيار القناع والقناعة، نزولاً عند مهمات تحجب جوانب من شخصيتهم، وتنال من وعدهم ورصيدهم. ارتضى صاحبنا بقسمة القراءة وصياغة الوثائق الحزبية بديلاً من الكتابة الممهورة باسمه، وغلَّبَ العطاء السياسي على الشهرة المعنوية في ميادين معرفته، لو قيِّضَ له التصرف على سجيته. عذراً من صداقتنا القديمة أيها الغائب، نحب فيك النواقص ومنغِّصات الحسودين وكل ما يجعل من هفوات البشر قاسماً وجودياً وعنوان أنسنة. أن يكون سلوك المرء شذوذاً عن جاري المألوف، المتعارف عليه مناسباً في مرآة التقليد الكنسي، فهو انتصار لحرية الذات والآخر، وفعل تجدد وتجديد لا يفقهه البلهاء ولا يدرون مغازيه. حبّـذا أن تهدم كل الأسوار المانعة عن معايشة الصدق والبراءة، وأن تحطِّم الطواطم والتابوهات، لعلّ التغيير يتصالح مع البسمة والفكاهة، وتصبح الرسالة أنشودة حياة الفرد والجماعة، تحيا بتنوع التجارب وكثرة الألوان، وتعتبر علك العثار والسيئات من صغائر المومياءات. تحملنا المناسبة الأليمة إلى مراجعة الذكريات واستعادة الصور من حافظة المرحلة الذهبية لليسار. تفرّق الشمل وطُويت الأحلام والأعلام قسراً عن الإرادة وصدق النيّات، وتبدّلت اللوحة والأحوال. بكى الثوريون ملكاً أضاعوه بملء ثقتهم وركونهم إلى أمجاد الاشتراكية ومنظومتها الحديدية، فيما تآكلها الصدأ والجمود وأذبلتها أيدي حرّاسها.
وقد يكون الحمدانان، حسن وحسين، في بادىء التزامهما السياسي، الأقلّ معرفة آنذاك ببلد السوفيات، وطن الاشتراكية الأول، وفلكه. أتاها حسن من بوابة الفلسفة على منهج ألتوسير وباليبار، ذي المنطق الصلب المتماسك مفهومياً، وجمع أغصانها العالمثالثية باقة للمعذّبين في الأرض حسب فرانز فانون، جنوبياً عاب على ماركس قراءته الأوروبية جوهرياً، ناهِضاً بمهمة تصويبها انطلاقاً من واقع البلدان التابعة، وعلى قياس تراثها ومجتمعاتها. وفي غمرة الصراع، بعد هزيمة عام 1967، اقتفى الحسن درب ماركس الشاب القائل بإيقاف هيغل للفلسفة على رأسها مثالياً، وضرورة تقويمها راسخة على قدميها، فاجتهد للعبور بها وضعياً ومكانياً، وإعادة انتاجها من موقع الشعوب المقهورة والمسلوبة.
دافع حسن عن الاشتراكية دون الاشتراكيين، ومارس النقد الجذري من على يسارها، عازياً التحوّلات العاصفة ببنيانها وصعوباتها إلى انحراف يميني، تبعاً لضمور منسوب المنهج العلمي وتطويع الأدوات النظرية في خدمة الدولة. ووقف حسين على حسنات الاشتراكية براغماتياً، منتهزاً دعمها للنضال القومي على وجه العموم، للتغاضي عن سيئاتها. لذلك عُنيَ واعتنى بتفكيك آليات غريمها الرأسمالي، وكشف عوراته البنيوية في حقل الاقتصاد، مدخلاً إلى بيان الأفضليات التاريخية للنظام الاشتراكي وحتمية انبعاثه ما استمرّ استلاب العاملين وسيطرة رأس المال. ولقد وفَّرَ النظام الطائفي في لبنان، العائم على تقاسم ريعي بليد للعوائد والمنافع، وفّر للأخوين ساحة وافية لنقد أصولي، محافظ في مسلماته الثورية ووفائه للفكر المرجعي المؤسس في المقاربة والنمط المفهومي والتوصيف المصلحي. وكما استخدم حسن مكنوز المعارف النظرية من تركة الرأسمالية، استلهم حسين نسق الإدارة، الاقتصادية والسياسية، من رحم غرب حاكى ضميره بما يُشبه الحب/الكراهية، وانتمى إلى فضائه على معنى الضرورة غير الشارطة والتماهي مع الأكاديميين والبحاثة الطليعيين، رافضي اقتصاد السوق المعولم في عقر دار الرأسمالية بالذات.
للآخرين تقويم أداء حسين حمدان السياسي منذ استلامه مهمات حزبية قيادية. فلست على دراية بها ومتابعة كفيلة بإبداء الرأي حيالها. بيد أنه في لحظة ما، تزامنت مع انهيار المنظومة الاشتراكية، تحلّى بملامح المهيّأ لتمكين الحزب الشيوعي من امتصاص الصدمة، والخروج من الأزمة، وربما الانعطاف نحو تغيير نوعي وتحديث مؤسسي. لكنّ حسين أحجم لأسباب ذهبت معه، وراوح في المكان بما لا يناسب قامته وهامته الفكرية. عندي أن المُثقف المنخرط في العمل السياسي، صعب عليه ضياع التضحيات، والاعتراف بحجم الزلزال، فآثر البقاء على رهان تاريخي بعيد المدى، صحيح من حيث المبدأ، والشهادة له (من شاهد) والاستمرار على نهج مؤيد نظرياً في المحصلة، عوض الإقدام على مراجعة شاملة قد تطيح بكيان الحزب الهشّ، وتمزق أوصاله، وتفرِّط بتاريخ سيادي مقاوم يفتخر به ويُحسد عليه. أغلب الظن، وفق تكاوين شخصية حسين الغائب، أن الأمل غطَّـى التفاؤل القريب لديه، واستولد في قراءة وجدانه كفاية انتظارية شرطها الإيفاء بالواجب وصيانة الباقي ضماناً لآتٍ لا محال.
أن تكون على ما أنتَ عليه، خير من مجهول بديلك، ومعلوم التنظيمات العاملة على مسرح السياسة في لبنان. وأن تبقى ممانعاً علمانياً وتقف وحيداً في مواجهة نظام طائفي الصبغة رأسمالي قهري بامتياز، فذلك نصيب حزب يستوجب عدم إطفاء شعلته مهما لحق به من عثار وأصابه من سهام وتشققات. هذا عهد رجل فقه، من حصيلة حرب أهلية مديدة، عدم استعجال الحلول، واستوعب درساً بليغاً من أزمة حركة التحرر وإرهاصاتها ثم اندثارها. ولكن استوى حسين أيضاً على لزوم المعارضة ووجوب كيانها، عملاً بتعددية بنَّاءَة من خارج التراث الشيوعي المعهود.
خطف الموت نموذجاً يسارياً عقائدياً، أرستقراطي المظهر، أحمر اللون، طري المعشر، أنيساً، غارقاً في الإيديولوجية، بهياً في المنتديات. شطّـر حسين حمدان نحو المقلب الآخر، حيث زاهي الدبس وكارنيك عطاريان ومهدي عامل وسهيل طويلة وسواهم من سلسلة طويلة تضيق بها الصفحات.
سوف يفتقد الغرباء في الوطن والمبعثرون في مغارب الأرض ومشارقها، من عارفيه ورفاق مراحل مشواره الطويل، أناقـة جليس ما فتىء يحلف بعينيه ولا يبخل بسحرهما، حتى عاجلته المنية، فأغمضهما وارتاح إلى الأبد.
* كاتب لبناني