strong> فوزي الأسمر *
وضع الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد النقاط على الحروف في الخطاب الذي ألقاه في جامعة كولومبيا في نيويورك في 24 أيلول الماضي أمام الآلاف من الحاضرين والمتظاهرين ضدّه والمؤيّدين له، وأمام الملايين من جمهور التلفزيونات.
وقد تضمّن هذا الخطاب الكثير من الآراء والتحليلات، وتضمن في الوقت نفسه رداً على وقاحة بعض ما جاء في كلمة رئيس الجامعة لي بولينغر، الذي لم يكتف بتوجيه أسئلته، بل عمد إلى توجيه بعض الإهانات اللفظية التي لا تليق بمدير جامعة رفيعة المستوى، رغم أنه كان هو الطرف الذي وجّه الدعوة إلى الرئيس الإيراني.
وبعيداً عن الدفاع عن إيران (وهي بغنى عنه)، ورغم معارضتنا لبعض المواقف والتصرفات الإيرانية، لا يمكن تجاهل وجوب تقدير المواقف التي طرحها نجاد في معقل الصهيونية، نيويورك، وخصوصاً في ما يتعلق بالقضية الفلسطينيّة. ويجدر القول إن ما طرحه الرئيس الإيراني في الجامعة المذكورة، لم يسبق أن طرحه أي مسؤول عربي أو فلسطيني بالشكل والصيغة نفسيهما في نيويورك بالذات، أو حتى في أي بلد آخر.
واعتقد بعض الصهاينة ممّن جنّدوا ونظموا أنفسهم بغرض إهانة نجاد وإحراجه، أن توجيه أسئلة محرجة قد يدفعه إلى التراجع عن مواقفه، الشيء الذي من شأنه خلق بلبلة أمام الجمهور، ليس فقط عند الحاضرين داخل القاعة، بل عند الملاين الذين استمعوا إلى الخطاب والحوار الذي دار عبر شبكات التلفزيون الرئيسية.
والسؤال الأساسي الذي طرحه الصهاينة كان متشعّباً لأنه يتعلّق بإنكار أحمدي نجاد لـ«المحرقة» التي لحقت باليهود على أيدي النازيين، وعدد الذين قتلوا فيها، وحول موقفه من ضرورة محو إسرائيل عن الخارطة. وكان ردّ الرئيس الإيراني واضحاً وصريحاً وجريئاً في آن، بحيث أجمعت أكثر من وسيلة إعلام أميركية على اعتبار أنّ ما قاله الضيف الإيراني هو كلام لم تسمعه الملايين الأميركية من قبل. بل إن صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية قالت في خبرها على موقعها الإلكتروني إن إسرائيل هي الخاسرة الأولى من زيارة الرئيس الإيراني إلى الولايات المتحدة.
واعترفت الصحيفة بأن إسرائيل فشلت في محاولاتها لمنع أحمدي نجاد من التحدّث في الجامعة، وكذلك في منع استضافته أمام برامج تلفزيونية وإذاعية أميركية.
قال نجاد إنّ أوروبا «المتحضرة» هي المسؤولة عن الكوارث التي لحقت بالعالم، بما في ذلك اليهود. وتساءل: «لماذا يجب على الفلسطينيين دفع ثمن أخطاء أوروبا؟ ولماذا تجثم إسرائيل على أرض طردت سكانها الأصليين منها؟ ولماذا يجب أن يعيش خمسة ملايين فلسطيني في وضعية لاجئين؟».
وأثار هذا الكلام حفيظة الصهاينة والمسيحيّين المتصهينين وأصدقاء إسرائيل في الكونغرس، ما دفع العضو الجمهوري من ولاية كاليفورنيا في مجلس النواب الأميركي، دونكن هانتر، إلى التهديد بتقديم مشروع قانون بحرمان جامعة «كولومبيا» المساعدات المالية التي تقدّمها لها الحكومة الفيدرالية إذا ما سمحت لأحمدي نجاد من إلقاء خطابه فيها.
ويمكن تقدير مدى تأثير كلام أحمدي نجاد على الشارع الأميركي من خلال متابعة الحملة الإعلامية المسعورة التي أُثيرَت ضدّه. فقد حاولت وسائل الإعلام اليمينية أن تفسّر حسب مصالحها ما قاله الرئيس الإيراني، وذلك بهدف تجريده من صدقيته وبالتالي تحريف أقواله.
فعلى سبيل المثال، حرِّفت كلمة «صهيوني» إلى «يهودي» أو «إسرائيلي»، كما حاولت بعض وسائل الإعلام التركيز على الأمور الجانبية غير السياسة، على غرار السؤال عن «الشذوذ الجنسي» في إيران. قال أحمدي نجاد إنه غير موجود بالنسبة نفسها الموجودة في أميركا، وكان واضحاً أنه يعني الحرية المطلقة بإقامة المنظمات التي تمثّل هذه المجموعة، أو مسلسلات تلفزيونية متعاطفة معهم، أو إصدار كتب ومجلات خاصة بهم وتظاهرات وعرائض وغيرها من النشاطات. إلا أن وسائل الإعلام الأميركية قالت إن الرئيس الإيراني نفى وجود هذه الظاهرة كلياً في بلاده. وطبعاً، كان الموضوع الآخر هو المرأة وموقعها في المجتمع الإيراني، وهو موضوع ذات حساسية، وخصوصاً بالنسبة إلى المجتمع الأميركي.
والحملة الإعلامية المركّزة على الرئيس الإيراني لها أسباب عديدة. أولاً إنها تؤكد أن الإعلام الأميركي يسير على خطى السياسة الرسمية في ما يتعلق بالعرب والمسلمين. فتسمية أحمدي نجاد بـ«الشيطان الكبير» على صفحة «نيويورك بوست» تصبّ مباشرة في محاولات جورج بوش المترنّحة في تجنيد الرأي العام الأميركي ضدّ إيران تماشياً مع مصالح إسرائيل. والتركيز على موقف الرئيس الإيراني من إسرائيل يشير إلى مدى السيطرة الصهيونية على هذا الإعلام.
ومع ذلك، كشفت زيارة الرئيس الإيراني أيضاً عن مدى التخبّط الذي تعيشه إدارة بوش. فهي تحارب إيران على أربع مستويات: الأول بصفتها «محور شر»، وثانياً بأنها «داعمة للإرهاب»، وثالثاً أنها معادية لإسرائيل وتريد شطبها عن خارطة العالم، ورابعاً أنها تريد الحصول على مقدرة نووية. لكن من ناحية أخرى، فإن واشنطن معنية في المحافظة على علاقات دبلوماسية مع طهران بسبب دورها الكبير في العراق.
هذا التخبط في الموقف الأميركي جعل من زيارة أحمدي نجاد ناجحة إعلامياً، وزاد من رصيد طهران لدى بعض وسائل الإعلام التي كانت تفتّش عن فجوة تدخل منها لتسجيل النقاط ضدّ الدور الذي تؤدّيه إدارة واشنطن في المنطقة.
* كاتب عربي مقيم في الولايات المتّحدة