محمد مصطفى علوش *
لعلّ أوّل تأريخ للإسلام السياسي المسلّح القائم على فكرة قلب نظام الحكم بالقوة على اعتباره نظاماً جاهلياً معادياً لتطبيق الشريعة، و«ذيل من ذيول الاستعمار الجاثم على صدر الأمة»، يعود للبدايات الأولى للثورة الجزائرية، على خلاف ما يذهب إليه الكثير من المتابعين والباحثين الذين يحصرون بداية العمل المسلح في التسعينيات مع انقلاب الجيش الجزائري على نتائج الانتخابات الأولى التي فاز فيها غالبية الإسلاميّين في «جبهة الإنقاذ» بالمقاعد البرلمانيّة. فما هو متعارف عليه بين قيادات الحركات الإسلامية عموماً، وكذلك بين المؤرخين الإسلاميّين، أن الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي كانت ثورة إسلامية في الأصل قادها العلماء ومشايخ الطرق الصوفية على غرار الثورة الإسلامية في ليبيا المتمثلة في السنوسية، وغيرها من الثورات في دول المغرب العربي. ويعتبر هؤلاء أنه لولا خطفها بعض رجال الثورة المتأثرين بالفكر الاشتراكي، لكانت الجزائر حاليّاً مركز خلافة المسلمين أو على الأقل إمارة إسلامية.
وإذا أردنا أن نكون أكثر تفصيلاً ودقة، فسوف نجد أنّ بدايات الإسلام السياسي ذي الطابع السلفي الجهادي، تعود في الجزائر إلى عام 1954 لأحد قيادات الثورة الجزائرية وهو «مصطفى بويعلى» الذي اتهم الجنرالات في الجزائر بخطف ثمار الجهاد الجزائري، وتعهّد بإرجاع ما سُلب للشعب الجزائري المسلم. ولعل أول تنظيم إسلامي مسلّح كان في عام 1973 وحمل اسم «حركة الدولة الإسلامية» التي أسسها بويعلى نفسه لاستئناف الثورة والجهاد من أجل تحكيم شرع الله في الجزائر، وقام عقبها بتوجيه تهديد صوتي إلى الرئيس الجزائري آنذاك الشاذلي بن شديد، وأنذره بالخروج على النظام وإعلان الجهاد عليه. وقبل أن تتمكن «حركة الدولة الإسلامية» من بناء نفسها ووضع الاستراتيجيات للمراحل المقبلة، استطاعت قوات الأمن الجزائرية قتل بويعلى عام 1976 أي بعد ثلاث سنوات فقط من دعوته وخروجه على النظام الجزائري. وبموته، دخلت السلفية الجهادية مرحلة السبات حتى نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، إذا ما استثنينا الحركات الإسلامية السياسية المؤمنة بالتغيير من طريق العملية السياسية، كحركة الإخوان المسلمين التي وجدت على التراب الجزائري منذ الثورة الجزائرية.
وخلال فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي شهد العالم الإسلامي عدة متغيرات دولية وإقليمية أنعشت الفكر السلفي الجهادي في الجزائر من جديد. وقد تمثلت هذه المتغيرات في سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار منظومته الإيديولوجية سياسياً وسط انكفاء واضح لأطروحاته الفكرية، وتطلع رأسمالي غربي متمثل في الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لوضع اليد على «تركة» الجيش الأحمر في المناطق التي غادرها والتي بدأ لعابه يسيل على خيراتها بعدما نجح في طرد الشيوعيين من أفغانستان من خلال دعمه لمدّ جديد، هو الفكر الجهادي السنّي المتقاطر من جميع أنحاء العالم الى أفغانستان، وتجميد مدّهم نحو المياه الدافئة في منطقة المتوسط وشمال إفريقيا. هذا فضلاً عن نجاح الثورة الإسلامية في إيران، ومحاولتها تصدير الثورة الإسلامية لعموم الدول الإسلامية، ثم نجاح «ثورة الإنقاذ الإسلامية» المتأثرة بأفكار «الجماعة الإسلامية» في باكستان وجماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، وخصوصاً أفكار المودودي وسيد قطب الداعية للانقلاب على الأنظمة الجاهلية، واستئناف الحياة الإسلامية في السودان ومحاولة استقطاب الحركات الإسلامية التحررية إليها. وكذلك برز انتعاش تنظيميْ «الجماعة الإسلامية» و«الجهاد» المصريَّين القريبين من الفكر السلفي الجهادي واللذين وجّها ضربات مؤلمة للنظام المصري.
لكن أهم محطة في هذا التحول الجذري العالمي الذي انعكس على إعادة إنتاج السلفية الجهادية الجزائرية تمثّل في أمرين: عودة الأفغان العرب إلى بلدانهم (وكان من بينهم عدد كبير من الجزائريين)، وسياسة الانفتاح القائمة على التوسع في الحريات والديموقراطية التي اعتمدها النظام الجزائري بعد انهيار مرجعيته السياسية (الاتحاد السوفياتي)، وهي السياسة التي أوصلت الإسلاميين في ما بعد إلى البرلمان.
اقتنص قادة الصحوة الإسلامية في الجزائر فرصة الترخيص للأحزاب السياسية عام 1989 بعد سياسة الانفتاح، فقاموا بتأسيس «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» المُشكّلة من عدد من علماء المساجد وأتباعهم، وكان على رأسهم الشيخان عباس مدني، وعلي بلحاج، وقد حققت الجبهة فوزاً باهراً في الانتخابات البلدية والبرلمانية، وكادت تتسلم الحكم في الجزائر لولا انقلاب المنتفعين من الجنرالات وبدعم خارجي أدّى إلى قيام الجيش بحظر نشاط الجبهة واعتقال قادتها وأعضائها.
أفرز هذا الواقع عدّة تنظيمات مسلحة انضوت في ما بعد تحت أكبر تنظيمين مسلّحين في الجزائر. واستمرّت «السلفية الجهادية» على أيدي مؤيدي الشيخ مصطفى بويعلى الذين رفضوا الانخراط في العمل تحت مظلة «جبهة الإنقاذ الإسلامية» بسبب اتّباعها المنهج الديموقراطي للوصول إلى السلطة. واستمرّ نشاط أتباع مصطفى بويعلى، إضافة الى «الأفغان الجزائريين»، بقيادة القاري سعيد، و«جماعة الطلبة» التي ترأسها الشيخ محمد سعيد، والتي تأثرت بأفكار مالك بن نبي، و«السلفية الإصلاحية» التي تحولت في ما بعد إلى جهادية وقامت بمواجهة النظام، وكان يتزعمها علي بلحاج الذي أصبح في ما بعد الرجل الثاني في «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، و«جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، التي تستند إلى السلفية الجهادية في منهجها، فضلاً عن وجود الكثير من الإسلاميين المستقلين الفاعلين في الساحة الجزائرية والذين انضموا إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ.
وجاء أول انشقاق شهدته هذه الجبهة الضخمة عقب قمع الجيش للعصيان المدني الذي نظمته الأحزاب الجزائرية على اختلاف أيديولوجياتها وإمعانه في حظر كل الأحزاب، فكان أول انشقاق وعرف بـ«جيش الإنقاذ» الذي هدف إلى مواجهة النظام من خلال استخدام القوة، وعلى رأس هذا الانشقاق مدني مزراق، وعبد القادر شبوطي، وعبد الرزاق رجام، ومحمد سعيد مخلوفي، ومحمد
السعيد.
ثم في أواخر عام 1991 وبداية عام 1992، انشقت جماعة أخرى عُرفت بانتمائها للسلفية الجهادية، باسم «الجماعة الإسلامية المسلحة»، وتميزت عن جيش الإنقاذ بقيادتها العمل العسكري المسلح ضد النظام، وبرز من أوائل أمراء الجماعة عبد الحق العيايدة. وقد تولى أبو عبد الرحمن أمين قيادتها عام 1994حين دخلت الجماعة في مرحلة عنفية شديدة لم تشهد البشرية مثلها، حيث قامت بحرق ما يزيد على 117 مسجداً وقتلت العديد من العلماء، ولا سيما القادة التاريخيين للتيار الإسلامي الجزائري، أمثال الشيخ محمد السعيد، والشيخ عبد الوهاب العمارة، وأصدرت الفتوى التي تبيح قتل نساء العاملين في الدولة والإعلام وأطفالهم، وتبنّت فكرة التكفير لعموم المسلمين المخالفين لها.
في ظل هذه الظروف المأساوية، انشقّ عن الجماعة الإسلامية المسلّحة مجموعة من العناصر بقيادة حسن حطاب (سلّم نفسه للسلطات الجزائرية الأسبوع الماضي) بعد خلاف مع قائدها على خلفية إيغالها في قتل الأطفال والنساء والعلماء، وأسس تنظيم «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» وقاده من عام 1998 إلى 2003 تاريخ عزله من قبل مساعدي. ثمّ تخلّى حطاب عن أفكار التكفير والغلو والتطرف، وركز على مواجهة النظام، وإبراز أهداف الجماعة وغاياتها وأولوياتها المتمثلة في إقامة الدولة الشرعية. وبدأت «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» بتنفيذ عدد من عمليات الاختطاف الموجهة ضدّ الأجانب وافتدائهم بالأموال الهائلة. وبعد مقتل زعيم الجماعة عنتر الزوابري، شهدت الجزائر حالة من الهدوء النسبي حتى ظهر «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي».
برز داخل تنظيم «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» ناشط مهم جداً يدعى عبد الملك دروكدال يلقَّب بـ«مصعب عبد الودود» وهو أحد المقربين من أمير التنظيم ومؤسسه حسن حطاب، وبعد عزل حطاب عن قيادة التنظيم عام 2003، خلفه أحد مساعديه نبيل صحراوي، وفي عهده أُسند الى دروكدال قيادة ما يسمى «فرع التصنيع»، وذلك بسبب كفاءته العلمية الجامعية في الكيمياء والهندسة الإلكترونية. لكن بعد مقتل صحراوي ترأس عبد الملك دروكدال التنظيم. وفي عهده، طرأ التحوّل الكبير حين أعلن في 24 كانون الثاني 2007 انضمام «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» إلى تنظيم القاعدة، قائلاً في بيان مصور: «قررنا بعد المشورة أن نبايع الشيخ أبا عبد الله أسامة بن لادن، ونعطيه صفقة أيدينا وثمرة قلوبنا، ونواصل جهادنا في الجزائر جنوداً تحت إمرته، يضرب بنا من يشاء ويرمي بنا حيث يشاء، فلن يجد منا إلا السمع والطاعة ولن يرى إلا ما يسره».
والسؤال الذي يبقى بعد هذه السلسة من الانشقاقات والولادات هو: هل سيستقر الأمر عند تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، أم ستظهر ولادات جديدة؟ ثمّ هل سيكون الوضع في الجزائر في ظل وجود «القاعدة» كما كان عليه قبلها، أم نحن أمام تحولات معقدة لا تقل تعقيداً عن بنية الحركات الإسلامية المسلّحة؟
* باحث متخصص في شؤون الجماعات الإسلامية